الإلهية يقتضي رعاية ما هو الأشرف والأفضل وهو النفس التي يكون موت البدن حياتها وتمامها.
على أنك لو نظرت حق النظر إلى البدن بما هو بدن لعلمت أن إنيته وذاته إنما يكون بالنفس فإذا انقطع النظر عن النفس لم يبق للبدن من إنيته وحقيقته إلا العناصر والأجزاء البسيطة والهيولى وهي بحالها.
وقال بعض العرفاء: إن الموت أثر تجلي الحق لموسى النفس الناطقة فيندك جبل البدن لكونه من عالم الملك وتجليه تعالى إنما يكون في عالم الملكوت للنفس الناطقة التي قويت نسبتها إلى ذلك العالم فعند ما قويت بشيء بجهة الروحانية والملكوتية اضمحلت منه جهة الجسمانية والملكية لأنهما ضدان والدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان.
فإن قلت: لو كانت النفوس متوجهة بحسب جبلتها نحو الآخرة فلم جعل في طبعها ما يضاد ذلك وهو كراهة الموت وبغض الفناء والعدم.
قلت: إن الله جعل لواجب حكمته في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء وجعل في جبلتها كراهة العدم والفناء وهذا حق للنفس جبلي لها لكون الوجود خيرا صرفا ونورا محضا وبقاء خيرية الخير ونورية النور والطبيعة لم يفعل شيئا باطلا.
فعلم من هذا أن شهوة النفوس للبقاء وكراهتها للفناء ليست إلا لحكمة وغاية وهي طلب بقائها الأخروي واتصالها بعالم الملكوت الذي هو عالم الدوام والبقاء.
فمحبة مطلق الوجود وكراهة مطلق العدم مرتكزة في طبع النفوس وذاتها بحيث أودعها الله تعالى فيها.
وحيث تيقن أن بقاءها ودوامها في هذه النشأة الحسية أمر مستحيل فلو لم يكن لها نشأة أخرى ينتقل هي إليها لكان ما ارتكز في النفس وأودع في جبلتها من جهة البقاء السرمدي والحياة الأبدية باطلا ضائعا ولا باطل في الطبيعة على ما قالته الحكماء قولا حتما.