فأما كراهة النفس لموت الجسد الذي هو عائق عن حياتها السرمدية وبقائها الأبدي والسبب في ذلك مع ما ارتكز فيها من التوجه الجبلي لها إلى الدار الآخرة والحركة الذاتية إلى القرب من الله تعالى والاجتناب عن عالم الظلمات والحجب الجسمانية فإن التجسم عين الحجاب والغفلة والنوم والجهل كما أشرنا إليه بوجه لطيف.
فنقول في كراهة الموت الطبيعي من الروح النطقي سببان أحدهما فاعلي والآخر غائي.
وأما السبب الفاعلي فهو أن النفس كما مر لها نشئات ثلاثة حسية وخيالية وعقلية.
فأول نشئاتها نشأة الحس ولها الغلبة على الإنسان ما دامت هذه الحيات الحسية باقية له فيجري أحكامها على النفس في هذه الدار ويؤثر فيها من هذه الجهة كلما يؤثر في الجوهر الحاس وفي الحياة الحسي من الملائمات والمنافيات الحسية (في الحيوان الحسي خ).
ولهذا يتألم ويتضرر ويتفرق الاتصال والاحتراق بالنار وسائر المنافيات الحسية لا من حيث كونها جوهرا ناطقا وذاتا عقلية ذات نشأة روحانية وعالم ملكوتي بل من حيث كونها جوهرا حساسا ذا نشأة حسية وعالم دنياوي.
فتوحشها من الموت البدني وكراهتها للعدم الحسي إنما يكون لها بحصة من هذه النشأة الطبيعية.
وأما ما يقتضيه العقل التام وقوة الباطن وغلبة سلطان الملكوت والتشوق إلى الله تعالى ومجاورة ملكوته ومقربيه فهو محبة الموت الطبيعي والوحشة عن حياة هذه النشأة ومشاهدة حيوانات الدنيا.
فإن وحشة أهل الباطن عن مجاورة أحياء هذا العالم أشد من وحشة الإنسان الحي عن مجاورة الأموات بكثير.
وأما السبب الغائي والحكمة في كراهة الموت فهو أن إرادة الله وقصده في إبداع الألم في جبلة الحيوانات والوجع والخوف في طباعها عما يلحق أبدانها من الآفات