والوجه الثاني أن يكون هذه الأمور كناية عما يلزمها من مطلق العذاب والسرور وبين بعضهم هذا بأن الحية بنفسها لا تولم بل الذي تلقاك منها هو السم ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد يؤثر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي هو يفضي إليه في العادة فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع فإنه لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه ليكون الإضافة كالتعريف بالسبب ويكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم يحصل صورة السبب والسبب يراد لثمرته لا لذاته.
وهذه الصفات المهلكات ينقلب موذيات ومولمات في النفس عند الموت فيكون آلامها كآلام اللدغ من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإنه كان لذيذا فصار اللذيذ بنفسه مولما حتى تنزل بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أنه لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت.
المقام الرابع في الاعتقاد بيوم المعاد والصور الموعودة الموجودة في الآخرة على ما هو طريقة الراسخين في العلم والعرفان ومسلك المتألهين من أهل الكشف والإيقان وهو أن هذه الأمور موجودات خارجية وثابتات عينية وهي في الموجودية والثبوت أقوى وأشد وأدوم من موجودات هذا العالم بل لا نسبة بينها وبين هذه في باب قوة الوجود وترتب الآثار وليست أنها بحيث يمكن أن يرى بهذه الأبصار الفانية البالية كما ذهب إليه الظاهريون. ولا أنها أمور خيالية وموجودات مثالية لا وجود لها في العين كما يراه الإشراقيون وتبعهم آخرون.. ولا أنها مجرد أمور عقلية أو مفهومات ذهنية وليس بأشكال وهيئات مقدارية وصور جسمانية كما يراه جمهور المتفلسفين من أتباع المشائين. بل إنها صور عينية جوهرية موجودة في الخارج لا في هذا العالم الهيولانية بل في عالم الآخرة وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة كل منها أعظم من مجموع هذا العالم بما لا نسبة بينهما ولكل نفس من الأخيار عالم عظيم الفسحة ومملكة أعظم مما في السماوات والأرض بعدة أضعاف.