ووجود أمور الآخرة وإن كان يشبه بوجود الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في المرآة من وجه لكن يفارقها بالذات.
أما وجه المشابهة فهو أن وجودها لا يزاحم وجود شيء من هذا العالم فإن النائم ربما يرى أفلاكا عظيمة وجبالا شاهقة وصحاري واسعة مثل ما يراها في هذا العالم.
ثم ما يراها في النوم غير ما يراها في اليقظة من الأمور الخارجة بالعدد إلا أن شيئا منها لا يزاحم شيئا من هذه ولا يضايقه فكذلك ما يراه الإنسان بعد الموت لا يزاحم ولا تضايق بينه وبين أجسام هذا العالم.
وأما وجه المفارقة بينهما بالذات فهو أن تلك الدار الآخرة وصورتها الواقعة فيها هي موجودات عينية أقوى في قوة الوجود وشدة التأثير من موجودات هذا العالم فكيف من الصور المنامية المحلومة.
ونسبة النشأة الثانية إلى هذه النشأة كنسبة الانتباه إلى النوم كما في قوله ص:
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
وأما الإشارة إلى كيفية وجود الصور الأخروية فقد مرت في عدة مواضع من هذا الكتاب متفرقة.
وأما بيانه التفصيلي بالنظم الطبيعي على نهج البرهان اللمي التام المقدمات بحيث لم يبق فيه مجال للبحث والإنكار والمنع والاستنكار والمجادلة والاستكبار فليطلب كشفه وتوضيحه وتفصيله من بعض الأسفار الإلهية الموسومة بالحكمة المتعالية.
وأما إجماله فإنما يستعلم بملاحظة أن النفس الناطقة الإنسانية لكونها من سنخ الملكوت في عالم القدرة والقوة لها قدرة على اختراع الصور لكن الصور التي يخترعها حين تعلقها بهذا البدن الترابي الكثيف المادي المركب من الأضداد ليست إلا ضعيفة الوجود لا يترتب عليه الآثار المطلوبة الخارجية ولا يكون ثابتة أيضا بل يكون متغيرة لأن مظهرها القوة الخيالية. وهي دائمة التحلل والانتقال والتجدد والزوال حسب اختلاف أمزجة محلها بسبب ما يرد عليها من المشوشات والمتغيرات الخارجية والداخلية فإذا فرض أحد هذه الصور بحيث يكون وجودها أقوى وبقاؤها أدوم فلم يكن حينئذ فرق بينها وبين الخارجية حيث يترتب عليها آثارها المطلوبة منها.
أ ولا ترى أنه كلما استراحت النفس من الاشتغال الضرورية والحركات اللازمة لحفظ البدن المجتمع من الأمور المتنافرة المتداعية إلى الانفكاك وتعطلت حواسها