على الدوام انقطعت حاجته من النظر إلى البدن ومقتضى الحواس ولكن لا يزال يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن تمام الاتصال وروح الوصال فإذا انحط عنه شغل البدن ووسواس الوهم ودعابة المتخيلة بالموت ارتفع الحجاب وزال المانع ودام الاتصال لأن النفس باقية والعقل الفعال باق أبدا والفيض من جهته مبذول لذاته والنفس مستعدة لقبوله بجوهرها إذا لم يكن مانع وقد زال المانع فدام الاتصال فإن البدن والحواس وإن احتيج إليها في الابتداء ليحصل بواسطتها الخيالات حتى يستنبط النفس من الخيالات المعاني المجردة ويتفطن بها منها إذ لا يمكن لها ابتداء التفطن بالمعارف إلا بواسطة الحواس وقد قيل من فقد حسا فقد علما.
فالحاسة نافعة في الابتداء كالشبكة للصيد والمركب للوصول إلى المقصد ثم بعد حصول المطلوب للطالب يصير عين ما كان شرطا وبالا بحث يكون الفائدة في خلاصه منه لكونه مانعا من التمتع بالمقصد بعد الوصول وشاغلا.
وقد علمت أن سعادة كل قوة بنيل ما هو مقتضى طبعها بغير آفة وحصول كمالها من غير عائق وكمال كل قوة من نوعها أو جنسها فكمال الشهوة وسعادتها هو اللذة وكمال الغضب وسعادته هو الغلبة وللوهم الرجاء والتمني وللخيال تصوير المستحسنات وللنفس بحسب ذاتها العقلية الوصول إلى العقليات وصيرورتها موضوعة للصور الإلهية من لدن الحق الأول إلى أدنى الوجود.
وأما سعادتها وخاصيتها بحسب مشاركة البدن فصدور أفعال سائغة إلى الخلق العدالة وملكتها وهي أن يتوسط النفس بين الأخلاق المتضادة البدنية فيما يشتهي ولا يشتهي وفيما يغضب ولا يغضب لئلا ينفعل عن البدن وقواه.
فإن إذعانها للبدن وقواه من موجبات شقاوتها وبعدها عن الباري تعالى.
فإن الارتباط الذي هي بين النفس والبدن يوجب انفعال كل منهما عن الآخر فتارة يحمل النفس على البدن فيقهره تأييدا من الله تعالى وتارة يسلم للبدن وتنقهر عنه بإغواء الشيطان بواسطة تلبيس الوهم وتزيينه مشتهيات البدن على النفس فإذا تكرر تسلمها له انفعلت عنه وحدثت فيها هيئة انقيادية حتى أنه ليعسر عليها بعد ذلك ما كان لا يعسر قبل من ممانعته وكفها عن إغواء