فإن المعرفة التامة في هذه الدنيا بذر المشاهدة التامة في الآخرة فهذه اللذة العقلية لنفس كملت في هذا العالم بالعلم فإن كانت منفكة عن العلوم منزهة عن الرذائل ليكون مصروفة الهمم إلى المتخيلات فلا يبعد أن يتخيل الصور الملذة فينجر إلى مشاهدتها بعد رفع البدن كما في النوم الذي هو ضرب من الموت لأنه عبارة عن ترك النفس استعمال بعض قواها المحركة والحساسة فيتخيل ما وصف في الجنة من المحسوسات وهذه جنة المتوسطين الصالحين وتلك هي جنة الكاملين المقربين.
واعلم أن الوجود هو السعادة والشعور بالوجود سعادة أيضا لكن الوجودات متفاضلة وأشرف الوجودات هو الوجود الحق الأول فأدونها هو الوجود الهيولى والزمان والحركات وما يشبهها ووجود كل شيء لذيذ عنده ووجود علته ألذ لو أدركه على كنهه فإن علة الشيء مقوم ذاته وكمال هويته.
والوجودات لما كانت متفاوتة فالسعادات التي هي الشعورات بها متفاوتة وكما أن وجود القوى العقلية أشرف من القوى الحيوانية الشهوية والغضبية والقوى التي هي نفوس البهائم وسائر الحيوانات فسعادتها أجل ولذاتها أتم وأما عدم التذاذنا الآن بالسعادة العقلية مع أنها حاصلة فهو إما لمرض نفساني وإما لاشتغالنا بالبدن وكما أن الآفة إذا زالت عن الحاسة السقيمة عادت إلى ما لها بالطبع فكذلك مقارنة النفس للبدن إذا بطلت ورجعت إلى ذاتها وذات علتها الفياضة ومعاينة جمالها يكون لها من اللذة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذة الحسية وذلك لأن أسباب هذه اللذة أقوى وأكثر وألزم للذات أما قوتها فلأن الإدراك عقلي محصل لحقيقة الشيء الملائم والمدرك هو البهاء المحض والخير الصرف والجود الذي يفيض عنه كل خيرية وكل نظام وكل لذة وكذلك ما بعده من الجواهر العقلية والملائكة الروحانية التي هي معشوقات بذواتها.
وأما الأمر الشهواني فإدراكه يتعلق بالظواهر غير متوغل إلى حقيقة الشيء الملائم بل إنما يصله إلى ظاهره وبسيطه ومدركه هو من المأكولات والملموسات والروائح وما أشبهها وأما أكثريتها فلأن مدرك القوة العقلية هو الكل ويدرك الحس