ذلك النور ولولا ما هي النفوس عليه من الأنوار ما صحت المشاهدة إذ لا يكون الشهود إلا باجتماع النورين ومن كان له حظ في النور كيف يشقى شقاء الأبد والنور ليس من عالم الشقاء وما من نفس إلا ولها نور تكشف به ما عملت فما كان من خير سرت به وما كان من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ولهذا ختم الآية بقوله والله رؤوف بالعباد حيث جعل لهم أنوارا يدركون بها وقد علموا أن النور لا حظ له في الشقاء فلا بد أن يكون المال إلى الملايم وحصول الغرض وذلك هو المعبر عنه بالسعادة لأنه قال كل نفس فعم وما خص نفسا من نفس وذكر الخير والشر فالوجود نور والعدم ظلمة فالشر عدم ونحن في الوجود فنحن في الخير وإن مرضنا فإنا نصح فإن الأصل جابر وهو النور وهكذا صفة كل نور إنما جاء ليظهر ما طلع عليه فلا تدرك الأشياء إلا بك وبه فلهذا لا يصح نتيجة أي لا تكون إلا بين اثنين أصلها الاقتدار الإلهي وقبول الممكن للانفعال لو نقص واحد من هاتين الحقيقتين لما ظهر للعالم عين فقد أعطيناك أمرا كليا في هذه الأنوار فلا نتكلف بسطها مخافة التطويل والأحوال لا تحتمل الإسهاب فلنذكر مبهمات الأنوار فأما النور الذي نسعى به فهو ما تقدم ذكره من أنوار المعلومات التي اكتفينا بذكر واحد منها ليكون تنبيها وأنموذجا لما سكتنا عنه وأما النور الذي بين أيدينا فهو نور الوقت والوقت ما أنت به فنوره ما أنت به فانظر فيه كيفما كان فهو مشهودك الحاكم عليك والقائم بك وهو عين الاسم الإلهي الذي أنت به قائم في الحال لا حكم له في ماض ولا مستأنف وأما النور الذي عن يمينك فهو المؤيد لك والمعين على ما يطلبه منك النور الذي بين يديك وهو الذي طلبت من الله في حال صلاتك في قولك وإياك نستعين والصلاة نور وهي النور الذي بين يديك فهو وقتك الذي أنت به فلما قلت وإياك نستعين أيدك بالنور من عن يمينك فإن اليمين القوة يقول الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين وأما النور الذي عن يسارك فهو نور الوقاية والجنة من الشبه المضلة المؤثرة في النفوس الجهالات والالتباس والتشكيك الذي يخطر للناظر الباحث في الاعتقاد في الله وفيما أخبر به عن نفسه وهو على نوعين نور إيمان ونور دليل ونور الدليل على نوعين نور نظر فكري ونور نظر كشفي فيعلم الأمر على ما هو عليه في نفسه فهذا فائدة النور الذي يأتي عن الشمال وأما النور الذي خلفنا فهو النور الذي يسعى بين يدي من يقتدي بنا ويتبعنا على مدرجتنا فهو لهم من بين أيديهم وهو لنا من خلفنا فيتبعنا على بصيرة من أجل ذلك النور الذي يخرجهم عن التقليد قال أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فهو بالنور الذي بين يديه يدعو على بصيرة والداعي المتبع له يدعو بالنور الذي خلفه ليكون هذا المتبع أيضا على بصيرة فيما يدعو إليه مثل من اتبعه وبذلك النور يرى من حلفه مثل ما يرى من بين يديه وهذا مقام نلته سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس في صلاة العصر وأنا أصلي بجماعة بالمسجد الأزهر بجانب عين الجبل فرأيته نورا يكاد يكون أكشف من الذي بين يدي غير أني لما رأيته زال عني حكم الخلف وما رأيت لي ظهرا ولا قفا ولم أفرق في تلك الرؤية بين جهاتي بل كنت مثل الأكرة لا أعقل لنفسي جهة إلا بالفرض لا بالوجود وكان الأمر كما شاهدته مع أنه كان قد تقدم لي قبل ذلك كشف الأشياء في عرض حائط قبلتي وهذا كشف لا يشبه هذا الكشف وأما النور الذي من فوقي فهو تنزل نور إلهي قدسي بعلم غريب لم يتقدمه خبر ولا يعطيه نظر وهذا النور هو الذي يعطي من العلم بالله ما ترده الأدلة العقلية إذا لم يكن لها إيمان فإن كان لها إيمان نوراني قبلته بتأويل لتجمع بين الأمرين وأما النور الذي من تحتنا فهو النور الذي يكون تحت حكمنا وتصريفنا لا يقترن معه فينا أمر إلهي نقف عنده فلا نصرفه إلا فيه وأما الأنوار التي نسعى بها فهي أنوار المعية من جانب الحق في قوله وهو معكم أينما كنتم لذلك قلنا من جانب الحق فإنه لا يختص بهذه المعية شئ من خلق الله دون غيره ولها الاسم الحفيظ والمحيط فإن لله مع بعض عباده معية اختصاص مثل معيته مع موسى وهارون في قوله إنني معكما أسمع وأرى فهذه بشرى لهما حتى لا يخافا فإنهما قالا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى أي يتقدم ويرتفع بالحجة إذ له الملك والسلطان فآمنهما الله مما خافا منه ومن هنا تعرف مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم وعلوها على رتبة غيره من الرسل فإن الله أخبر عن محمد صلى الله عليه
(٤٨٦)