يسألون وقد نبهناك على أمر جليل وعلم عظيم وسر غامض خفي لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه من المخلوقين أحاله عقل وورد به نقل وبعد عنه فهم وقبله فهم فإن تدبرت فصول هذا الباب وقفت على لباب المعرفة الإلهية وتحققت قوله ص من عرف نفسه عرف ربه وقد أوجدتك أنك محل لكل صفة محمودة ومذمومة ثم أعلمتك معنى الحمد والذم وحددتك وأطلقتك ذلك لتعلم أنك العالم الذي لا يعلم وهو سبحانه العالم الذي يعلم ولا يعلم فلا يعلم ما هو العبد عليه وأعني بالعبد العالم كله والإنسان إلا الله تعالى هو يعلمه ثم أعلم بعض عبيده فمنا من علم نفسه ومنا من جهل نفسه ومنا من تخيل أنه علم نفسه ومنا من علم من نفسه بعض ما هو عليه في نفسه وبذلك القدر ينسب إليه أنه علم من ربه فإنه من عرف نفسه عرف ربه وكما لا يجتمع الدليل والمدلول لا تجتمع أنت وهو في حد ولا حقيقة فإنه الخالق وأنت المخلوق وإن كنت خالقا وهو المالك وأنت المملوك وإن كنت مالكا فلا يحجبنك الاشتراك في الأخلاق فإنك المخلوق وهو الخلاق فهذا مقام الخلق قد أبنته وما عدا هذا مما تشير إليه الصوفية من التخلق فهو تلفيق من الكلام وقولهم في التخلق بالأسماء كذلك ونحن قد أطلقنا مثل ما أطلقوه ولكن عن علم محقق وإطلاق مطلق بأدب إلهي عن تحقق فهو في الحقيقة خلق لا تخلق كما أفهمتك وأكثر من هذا الإيضاح والبيان الذي يطلبه هذا المقام فلا يكون فإنا ما تعدينا فيه حدود الله في عبارتنا ولا ذكرنا شيئا ما نسبه إلى نفسه فما خرجنا عن كلامه وما أنزله على الصادقين من عباده وهو الحكيم العليم بل هو العليم الحكيم فهو العليم ولا عالم وهو الحكيم في ترتيب العالم فالعالم والعليم أعم والحكيم تعلق خاص للعلم فهذا هو التحقق بالخلق الإلهي وأما الأخلاق التي تحتاج إلى معرفتها أهل السلوك وكلنا سالك إذ لا تصح نهاية فهو أن نقول إن العرف والشرع قد وردا بمكارم الأخلاق وسفساف الأخلاق وأمرنا بإتيان مكارمها واجتناب سفسافها ثم إن الشرع قد نبه على أنها على قسمين من الأخلاق ما يكون في جبلة الإنسان كما قال رسول الله ص للأشج أشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة وفي لفظ آخر لغير مسلم فقال الرجل يا رسول الله أشئ جبلت عليه قال نعم قال الحمد لله الذي جبلني عليهما أو كما قال ومنها مكتسبة فالمكتسب هو الذي يعبر عنه بالتخلق وهو التشبه بمن هي فيه هذه الأخلاق الكريمة جبلية في أصل خلقه ولا شك أن استعمال مكارم الأخلاق صعب لملاقاة الضد في استعمالها في الكون فإن الغرضين والإرادتين من الشخصين إذا تعارضتا وطلب كل واحد منهما منك أن تصرف معه كريم خلق بقضاء غرضه ولا يتمكن لك الجمع بينهما فمهما أرضيت الواحد أسخطت الآخر وإذا تعذر الجمع واستحال تعميم الرضي وتصريف الخلق الكريم مع كل واحد منهما تعين على الإنسان أن يخرج عن نفسه في ذلك ويجعل الحكم فيه للشرع فيتخذه لهذا الباب ميزانا وإماما فاجعل إمامك ما يرضي الله وفيما يرضي الله ولتصرف خلقك الكريم مع الله خاصة فهو الصاحب والخليفة وهو أولى أن يعامل بمكارم الأخلاق فما قدمه الله قدمه فإن ذلك التقديم هو تصريف الحق لذلك الخلق مع ذلك العبد وفي ذلك المحل فتصريف خلقك مع الله أولى من تصريفه مع الكون بل هو واجب لا أولى فإن جميع الخلق من الملائكة والرسل والمؤمنين يحمدونك على ذلك الفعل والخلق الذي عاملت به ذلك الشخص الذي قدمه الحق وأوجب عليك أن تعامله به وما يذمك فيه إلا صاحب ذلك الغرض إذا لم يكن مؤمنا ومراعاة الأصل أولى وإذا لم تتخلق بمكارم الأخلاق على ما رسمته لك لم يصح لك هذا المقام ويذمك فيه كل مخلوق ألا ترى شاهد الزور فإنه أول من يتجرح عنده ولا يعتقد فيه ويذمه في باطنه من شهد له وقد أسخط الله وملائكته ورسله والمؤمنين وليست مكارم الأخلاق إلا ما يتعلق منها بمعاملة غيرك لا غير وما عدا ذلك فلا يسمى مكارم خلق وإنما هي نعوت يتخلق بها لتصحيح الصورة أو النسبة لا غير هذا هو ربط هذا الباب في السالكين والمخلصين سعادة الأبد وتفاصيل تصاريف الأخلاق مع الموجودات تكثر لو بيناها وكيفياتها لم يحصرها كتاب وبعد أن أعطيناك أصلا فيها تعتمد عليه فاعمل به وهو أن تنظر إلى حكم الشرع في كل حركة منك في حق كل موجود فتعامله بما قال لك الشارع عامله به على الوجوب أو الندب ولا تتعداه تكن في ذلك محمود النقيبة مأمونا معظما عند الله صاحب نور إلهي (نكتة) فإن كنت فعالا بالهمة أرضيت جميع الموجودات عنك إذ كان لك
(٢٤٣)