فكما أن النزول من المبدإ الأعلى على هذا المنوال فكذلك الرجوع والصعود إلى الحق تعالى يكون على عكس هذا المثال فجعل طريق الحواس درجا ومراقي يرتقي بها إلى مشاهدة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها بعد طي مراتب البدايات والأوساط. فالبدايات هي عالم المحسوسات والأوساط عالم الآخرة التي فيه الجنة والنار الجسمانيتين.
وقد علمت مرارا أن سبب التعذب بالنار إنما يحصل من التلذذ بالحسيات.
فدخول النار هو نتيجة ارتكاب اللذات الدنياوية كما أن دخول الجنة هو من نتائج الزهد في الدنيا والورع من محارم الله.
وقوله تعالى: و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا يؤيد ما ذكر فكان كل واحد من الناس بواسطة وقوعه أولا في عالم المحسوسات له استحقاق دخول النار لو لم يجبر هذه المعصية الفطرية التي هو الوجود الحسي بفعل الطاعات وكسب الحسنات.
فإن قيل: ما ذكرت ينافي معنى قوله ص: كل مولود يولد على الفطرة... الحديث:
قلنا: لا منافاة بينهما فإن هذه الفطرة فطرة النفس الناطقة التي هي بحسب ذاتها من عالم التقدس والطهارة.
وأما التي ذكرناها فهي فطرة البدن الذي حصل من الأجسام الخسيسة التي وجودها في أخس المراتب وأبعدها عن الله ومجاوريه من المقدسين.
وقد روي عن النبي حكاية عن الله تعالى أنه قال: ما نظرت إلى الأجسام مذ خلقتها.
فإن أردت يا حبيبي وفقك الله لسلوك طريقه أن تبلغ أشرف المطلوبات وأفضل الغايات التي هي الأمور العقلية والحقائق الروحانية فاجتهد أولا في معرفة الأمور المحسوسة فبذلك يتيسر لك أن تتركها وتزهد فيها وتنال الأمور الغير المحسوسة.
فإن العوالم من المضافات لوقوعها تحت جنس المضاف فإذا عرفت المحسوسات عرفت ما