حين كونه عقلا مستفادا يقدر أن يتصور صورا عقلية باتصال بالعقول الفعالة المبدعة للمعقولات المستقلة الوجود إلا أنه ما دام اشتغاله بالبدن ونشأتها الحسية الدنياوية لا يمكنه أن يحضر معقولاته المستقلة الوجود مشاهدة إياها مشاهدة خارجية بل يشاهدها الآن مشاهدة ذهنية كمشاهدة الأشياء خلف حجاب كهواء مغبرة كثيف أو ماء كدر. وكذلك عامة الناس وجميع البشر لا يمكنهم ولا رخصة لهم في مشاهدة حال المحشر وصور النشأة الآخرة وشهود الجنة والنار وسائر ما وعدهم الله ورسوله حقا ما داموا في الدنيا لأنها أمور باطنية غيبية وقد غلب على أكثر الناس هذه النشأة الدنياوية وطرت عليهم الغفلة والنسيان عن أمور القيامة وأحوال الباطن ونسوا أنفسهم لإعراضهم عن معرفة بارئها ومنشئها ويئسوا من الآخرة كما بئس الكفار من أصحاب القبور فلم يدركوا من الحقائق الأخروية والمواعيد النبوية مما جاء به الكتب والرسل إلا نحوا ضعيفا على ضرب من التخييل والتمثيل دون حقيقة الأمر كما هو عليه.
وأما العرفاء الإلهيون فهم الذين وصلوا بقوة اليقين إلى إدراك حقائق النشأة الآخرة ومشاهدة عقلية من غير شائبة شك وريب فلا يزيدهم رفع الحجب عند الموت إلا كشفا ووضوحا لا يقينا ومعرفة.
وأما أصحاب المعارج من الأنبياء والمتجردون من أغشية المواد ولبوسات الأجرام من الأولياء لخلع أبدانهم العنصرية أو تحصيلهم ملكة خلعها وإن لم يصر منخلعة بل مع صحوهم وشعورهم بما يورده الحواس فقد حصلت لهم مشاهدة الصور الأخروية وأحوال البرزخ قبل وقوعها وقيام القيامة للمحجوبين كما وقع للنبي ص ليلة المعراج حيث يحكى عنه أنه: رأى أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وعين بعضا منهم وهم بعد ما ماتوا وما قتلوا أن فلانا وفلانا رأيتهم في الجنة وفلان وفلان رأيتهم في النار. ورأى الأنبياء ع وقد انقرضت أزمنة حياتهم الدنياوية ورأى موسى ع حين كلمه تعالى تكليما وذلك لأجل اطلاعه على الآخرة وشهوده للنشأة الثانية وخروجه عن الأمكنة والأزمنة فكانت نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنظر إلى إحاطة شهوده