وراء المحسوسات. فكما أن من لم يعرف الله لم يمكنه طلبه والتشوق إليه والسلوك نحوه فكذلك من لم يعرف الدنيا وحقارة نشأتها لم يمكنه رفضها والرغبة عنها.
ولهذا اعتنى الحكماء بالبحث عن الأجسام وأحوال المحسوسات لينتقلوا منها إلى الرياضيات ثم إلى الإلهيات.
ولكون الدنيا واقعة تحت جنس المضاف بالقياس إلى الآخرة قال الله تعالى تنبيها على معرفة النشأة الآخرة: و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون.
ومما يجب لك أن تعلم أن معرفة الدنيا والمحسوسات ومشاهدتها هي فقر النفس وشدة حاجتها ومعرفة أمور الآخرة والروحانيات هي غناؤها ونعيمها وذلك لأن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى هذا البدن العنصري وآلاته لتدرك بتوسطها الجسمانيات وقد مر أن النفس ما دامت في هذه الدنيا كراكب سفينة هي البدن وآلاته هي بمنزلة آلات السفينة يشاهد بتوسطها عجائب بحر الهيولى وطبائع المحسوسات ثم يرتحل ويعبر منه إلى عالم آخر فإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد والتعلق به بعد ذلك كمن استغنى عن السفينة بعد أن عبر بها البحر.
فاجتهد أيها الحبيب في طلب الغناء الأبدي وربح التجارة السرمدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك قبل فناء المدة وفساد الهيكل وبطلان وجوده.
واحذر كل الحذر أن تبقى وتحمل نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل دنياوي لتتم وتكمل به فتكون ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل أو تبقى في البرزخ إلى يوم يبعثون ومن أين لهم أن يشعرون أيان يبعثون أو تبقى في الحساب.
والمناقشة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ما دامت النفس ساهية لاهية مقبلة على الشهوات الجسمانية واللذات الجرمانية والزينة الطبيعية والغرور بالأماني في هذه الحياة الحسية المذمومة التي ذمها رب العالمين فقال اعلموا: أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة