من الوضوح لا يغيب عنه منها شئ في غاية الصفاء وفي هذا التجلي يقول النبي صلى الله عليه وسلم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فمن بعض ما يريد بهذا التشبيه الذي وقع بالرؤية إدراك ذات القمر لضعف أشعة القمر أن يمنع البصر من إدراك ذاته والصحيح في ذلك أنه يريد به إذا كسف ليلة بدره فإنه عند ذلك يدرك البصر ذات القمر التي لا تقبل الزيادة ولا النقصان فهو إدراك محقق لذات القمر ثم قال في نفس الحديث أو كما ترون الشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب وفي ذلك الوقت يكون نورها أقوى فتظهر الأشياء كلها بها فيدرك البصر كلما وقع عليه من الأشياء إدراكه حين كشفت له هذه الشمس وإذا أراد أن يحقق النظر إلى ذات الشمس في هذه الحالة لا يقدر فأوقع التشبيه أن هذا التجلي ليس يمنع أن يرى الناس بعضهم بعضا أي لا يفنى فلهذا أوقع التشبيه برؤية القمر ليلة البدر وبرؤية الشمس وما اقتصر على واحد منهما وأكد البقاء في هذا المشهد بقوله لا تضارون ولا تضامون من الضيم والضم الذي هو المزاحمة ومن الضير والإضرار ولما دخلت هذا المنزل وقع لي فيه التجلي في النور الذي لا شعاع له فرأيته علما ورأيت نفسي به ورأيت جميع الأشياء بنفسي وبما تحمله الأشياء في ذواتها من الأنوار التي تعطيها حقائقهم لا من نور زائد على ذلك فرأيت مشهدا عظيما حسيا لا عقليا وصورة حقية لا معنى ظهر في هذا التجلي اتساع الصغير لدخول الكبير فيه مع بقاء الصغير على صغره والكبير على كبره كالجمل يلج في سم الخياط يشاهد ذلك حسا لا خيالا وقد وسعه ولا تدري كيف ولا تنكر ما تراه فسبحان من تعالى عن إدراك ما تكيفه العقول وفضل إدراك البصر عليها لا إله إلا هو العزيز الحكيم فأظهر عجز العقول بهذا التجلي الذي أظهر به قوة الأبصار وفضلها على العقول وأظهر في تجليه في النور الشعشعاني عجز الأبصار وقوة العقول وفضلها على الأبصار ليتصف الكل بالعجز وينفرد الحق بالكمال الذاتي فمن عاين هذا المنزل يرى من العجائب والآيات ما لا يمكن أن يحويه غيره وأول هذا المنزل عند دخولك فيه ترى نفسك مظهرا للحق فإذا رأيته تتحقق من نفسك أنه ليس هو وهو آخر هذا المنزل فيتضمن أوله هو مشاهدة ويخاطبك في هذا التجلي بأنه ليس هو فإنه من التجليات التي لا تفني عين المشاهدة فتجمع بين الرؤية والخطاب وآخر هذا المنزل يتضمن الهو وهو في الغيب من غير رؤية وهو متعلق نظر العقل فأول هذا المنزل بصري وآخره عقلي وما بينهما وهذا منزل يتضمن أيضا ما نذكره فاعلم إن الأسرار التي يمنحها الحق عبده من أهل هذه الطريقة على قسمين منها أسرار تعطيك بذاتها إن تظهرها في الأكوان من غير حرج في ذلك عليك ولا تحتاج في إظهارها للغير إلى إذن إلهي وأسرار لا تعطيك بذاتها هذا الحكم وهي على قسمين قسم منها تحتاج في إظهاره إلى إذن إلهي فإن أظهرته عن غير إذن قوبلت ووقع الحرج والجناح عليك في إظهاره وقد وقع لي مثل هذا ولكن بحمد الله قوبلت بالعتاب لا بالعقاب رحمة من الله بي وعناية وأسرار أخر لا يعطيها الحق لأحد بواسطة فلو طلبت الأذن فيها إذا أطلعك الحق عليها أن توصلها ما أذن لك فإنها أذواق لا تعرفها من غيرك بمجرد العبارة عنها فإنها مما ينفرد الحق بإيصالها من الحق إلى العبد كما يفعل بالأحوال فلو رام أحد أن يعبر عن الشوق الذي يجده إلى من اشتاق إليه ما أطاق ذلك ولا وصل إلى فهم الآخر منه شئ إلا أن يقوم الشوق به مثل ما قام بصاحبه فيعرف عند ذلك حقيقة مسمى هذا اللفظ وكذلك ما في معناه وكلذة الجماع التي حرمها العنين لا يتمكن لمن قامت به أن يوصلها بالتعريف إلى العنين وكذلك كل علم يتعلق بالحواس لا يمكن للعقل أن يصل إلى معرفته بنفسه ولا بالعبارة عنه إلا أن يحس به الآخر فالذي يختص بهذا المنزل معرفة الأسرار التي يتوقف إظهارها ممن قامت به وأعطيته على الأذن الإلهي ومعرفة الأسرار الإلهية المستورة خلف حجاب الصور التي لا تظهر إلا لمن كان على بينة من ربه في ذلك فإذا شهدت البينة لها عند العبد قبلها فلا يحتاج إلى شاهد مثل ما يحتاج في غيرها فإذا حصل العبد في هذا المقام ووهبه الحق من هذه الأسرار وهب تجل واطلع على أمور غامضة من العلم بالله سترها في نفسه وكتمها عن غيره وفاء بحق الأمانة وحفظها ومعرفة بقدرها ومنزلتها ويطلع على هذه الأسرار معنا من ينسب بعض الأفعال إلى غير الله من المعتزلة والفلاسفة وأهل الشرك الذين عبدوا غير الله مع عبادة الله فقد ينفردون في أوقات مع الله دون الشريك وذلك في أوقات الضرورات المهلكة التي يقطعون فيها إن آلهتهم لا تغني
(٦٣٣)