الآنات في كل حال وأن هيكلك ثابت على صورة واحدة وإن اختلفت عليه الأعراض فإذا فنيت عن ذاتك بمشهودك الذي هو شاهد الحق من الحق وغير الحق ولا تغيب في هذه الحال عن شهود ذاتك فيه فما أنت صاحب هذا الفناء فإن لم تشهد ذاتك في هذا الشهود وشاهدت ما شاهدت فأنت صاحب هذا النوع من الفناء وإنما قلنا شاهدت ما شاهدت ولم نخصص شهود الحق وحده فإن صاحب هذا الفناء قد يكون مشهوده كونا من الأكوان وهو حال يعصم ذات الإنسان من التأثر أخبرني الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زيدان بمدينة فاس وكان ينكر حال الفناء وكان يختلف إلينا وكانت فيه إنابة فلما كان ذات يوم دخل علي وهو فارح مسرور فقال لي يا سيدي الفناء الذي تذكره الصوفية صحيح عندي بالذوق قد شاهدته اليوم قلت له كيف قال ألست تعلم أن أمير المؤمنين دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة قلت له بلي قال اعلم إني خرجت أتفرج مع أهل فاس فأقبلت العساكر فلما وصل أمير المؤمنين ونظرت إليه فنيت عن نفسي وعن العسكر وعن جميع ما يحسه الإنسان وما سمعت دوي الكوسات ولا صوت طبل مع كثرة ذلك ولا البوقات ولا ضجيج الناس ولا رأيت ببصري أحدا من العالم جملة واحدة سوى شخص أمير المؤمنين ثم إنه ما أزاحني أحد عن مكاني ووقفت في طريق الخيل وازدحام الناس وما رأيت نفسي ولا علمت أني ناظر إليه بل فنيت عن ذاتي وعن الحاضرين كلهم بشهودي فيه ولما انحجب عني ورجعت إلى نفسي أخذتني الخيل وازدحام الناس فأزالوني عن موضعي وما تخلصت من الضيق إلا بشدة وأدرك سمعي الضجيج وأصوات الكوسات والبوقات فتحققت إن الفناء حق وأنه حال يعصم ذات الفاني من أن يؤثر فيه ما فنى عنه هذا يا أخي فناء في مخلوق فما ظنك بالفناء في الخالق فإن شاهدت في هذا الفناء تنوع ذاتك اللطيفة ولم تشاهد معها سواها ففناؤك عنك بك لا بسواك فأنت فإن عن ذاتك ولست فانيا عن ذاتك فإنك لك بك مشهود من حيث لطيفتك وإنك لك بك مفقود من حيث هيكلك فإن شاهدت مركبك في حال هذا الفناء فمشهودك خيال ومثال ما هو عينك ولا غيرك بل حالك في هذا الفناء حال النائم صاحب الرؤيا (وأما النوع الخامس من الفناء) وهو فناؤك عن كل العالم بشهودك الحق أو ذاتك فإن تحققت من تشهد منك علمت أنك شاهدت ما شاهدته بعين حق والحق لا يفنى بمشاهدة نفسه ولا العالم فلا تفني في هذه الحال عن العالم وإن لم تعلم من يشهد منك كنت صاحب هذا الحال وفنيت عن رؤية العالم بشهود الحق أو بشهود ذاتك كما فنيت عن ذاتك بشهود الحق أو بشهود كون من الأكوان فهذا النوع يقرب من الرابع في الصورة وإن كان يعطي من الفائدة ما لا يعطيه النوع الرابع المتقدم (وأما النوع السادس من الفناء) فهو إن تفني عن كل ما سوى الله بالله ولا بد وتفني في هذا الفناء عن رؤيتك فلا تعلم أنك في حال شهود حق إذ لا عين لك مشهودة في هذا الحال وهنا يطرأ غلط لبعض الناس من أهل هذا الشأن وأبينه لك إن شاء الله حتى يتخلص لك المقام وإن الله ألهمني لهذا البيان وذلك أن صاحب هذا الحال إذا فنى عن كل ما سوى الله بشهود الله فيما يقول فلا يخلو في شهوده ذلك إما أن يرى الحق في شؤونه أو لا يراه في شؤونه فإنه لا يزال في شؤون إذ لا غيبة له عن العالم ولا عن أثر فيه فإن شاهده في شؤونه فما فنى عن كل ما سوى الله وإن شاهده في غير شؤونه بل في غناه عن العالم فهو صحيح الدعوى فإن الله غني عن العالمين وهذا المشهد كان للصديق فإنه قال ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فأثبت أنه رآه ولا شئ ثم أقيم في مشهد آخر فرأى صدور الشئ عنه وقد كان رآه ولا شئ فجعل تلك الرؤية قبل هذا الشهود فقال ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فقد أبنت لك الأمر على ما هو عليه (وأما النوع السابع من الفناء) فهو الفناء عن صفات الحق ونسبها وذلك لا يكون إلا بشهود ظهور العالم عن الحق لعين هذا الشخص لذات الحق ونفسه لا لأمر زائد يعقل ولكن لا من كونه علة كما يراه بعض النظار ولا يرى الكون معلولا وإنما يراه حقا ظاهرا في عين مظهر بصورة استعداد ذلك المظهر في نفسه فلا يرى للحق أثرا في الكون فما يكون له دليل على ثبوت نسبة ولا صفة ولا نعت فيفنيه هذا الشهود عن الأسماء والصفات والنعوت بل إن حققه يرى أنه محل التأثر حيث أثر فيه استعداد الأعيان الثابتة من أعيان الممكنات ومما يحقق هذا كونه تعالى وصف نفسه في كتابه وعلى ألسنة رسله بما وصف به المخلوقات المحدثات وإما أن تكون هذه الصفات في جنابه حقا ثم نعتنا بها
(٥١٤)