وثم علل أخر لا تحتمل الأصوات بل تصلح بنقيض ما ذكرناه وذلك كله بحسب الخلط الغالب الأقوى وضعف المناقض المقابل له وهذه العلل منها أصلية في نفس المزاج والخلقة مثل الجحوظة في العينين أو الغئورة المفرطة أو الأنف الدقيق جدا أو الغليظ جدا أو المتسع الثقب المنتفخ أو نقيضه أو البياض الشديد أو السواد الشديد أو الجعودة في الشعر أو السبوطة فيه الكثيرة أو الزرقة الشديدة في العين الفيروزجيه أو الكحولة الغائية وكذلك سائر الأعضاء في عدم الاعتدال وهو الانحراف من الاعتدال إلى أحد الميلين كما ذكرنا فإن خلق الإنسان يكون بحسب ما هي هذه الأعضاء عليه من اعتدال وانحراف فإذا جاء هذا الطبيب الإلهي وهو النبي أو الوارث أو الحكيم فيرى ما تقتضيه هذه النشأة التي انقادت إليه وجعلت زمامها في يديه ليربيها ويسعى في سعادتها ويردها إلى خلاف ما تقتضيه نشأته إن كان منحرفا بأن يبين لها مصارف ذلك الانحراف التي يحمدها الله ويكون فيها سعادة هذه النفس فإنه لا يتمكن له أن ينشأها نشأة أخرى فقد فرع ربك من خلق ومن خلق ولم يبق بأيدينا إلا تبيين المصارف فالمعتدل النشأة إذا كان جاهلا بالأمور السعادية عند الله التي تحتاج إلى موقف وهو رسول الله ص يسأل العلماء عن الأمور التي تعطي السعادة عند الله وأما مكارم الأخلاق فلا يحتاج فيها إلى موقف فإن مزاج نشأته واعتدالها لا تعطيه إلا مكارم الأخلاق بل يحتاج إلى الموقف في بعض الأمور في استعمال الانحراف وهو في ذلك مكلف لما يكون في ذلك الانحراف من المصالح إما دنيا وإما آخرة وإما المجموع وأما المنحرف فتصدر منه مذام الأخلاق وسفسافها وطلب نفوذ الأغراض القائمة به ولا يبالي ما يؤول إليه أمره في نيلها فالطبيب السؤوس يستدرجه حالا بعد حال بتبيين المصارف كما ذكرناه فإذا جاء صاحب الفراسة الإيمانية وكان عالما بما يكون فيه المصلحة لهذا المتفرس فيه ورأى منه حركة تؤدي إلى مذموم أو تكون تلك الحركة قد وقعت منه مذمومة ساسة حتى يتمكن منه إلى أن يسلم إليه نفسه ليتحكم فيها فإن كان منحرفا كان في سلوكه صاحب مجاهدة ورياضة وإن كان معتدلا كان في سلوكه طيب النفس ملتذا صاحب فرح وسرور تهون عليه الأمور الصعاب على غيره ولا تكلف عنده في شئ من مكارم الأخلاق فإذا صفت نفسه وزكت ولحقت بالعالم المطهر ونظرت بالعين الإلهي وسمعت به وتحركت بقوته عرفت مصادر الأمور ومواردها وما تنبعث عنه وما تؤول إليه فذلك المعبر عنه بالفراسة الإيمانية وهي موهبة من الله تعالى ينالها السليم الطبع وغير السليم وأصل الاعتدال والانحراف في العالم وفي الموجب لغلبة بعض الأصول على بعضها التي لها الحكم في المركبات هي من آثار العلم الإلهي الذي منه يرحم الله من يشاء ويغفر ويعذب ويكره ويرضى ويغضب وأين الغضب من الرضي وأين العفو من الانتقام وأين السخط من الرضوان وكل ذلك جاءت به الأخبار الإلهية في الكتب المنزلة وعلمها أهل الكشف مشاهدة عين ولولا ما وردت على ألسنة الأنبياء والرسل ونزلت بها الكتب من الله على أيديهم وأيدوا بالمعجزات ليثبت صدقهم عند الأجانب لأجل هذه الأمور الإلهية حتى تقبل منهم إذا وردوا بها فإن أدلة العقول تحيلها في الجناب الإلهي فلو نطق بها مشاهد لها مكاشف بها من غير تأييد آية تدل على صدقه جهل وطعن في نظره وأقيمت الدلالات العقلية على فساد عقله وفكره وحكم خياله عليه وأن الله لا ينبغي أن يوصف بهذه الأوصاف فهذا كان سبب نزولها على أيدي الرسل والكتب ليستريح إليها المشاهد ويأنس بكلامه إذا أتى بمثل هذا النوع فلأجل هذه الأمور وردت الشرائع ولأجل الأحكام التي لا توافق أغراض الرؤساء والمقدمين لو سمعوها من غير الرسول فلما أنسوا بها من الرسل وألفت النفوس أحكام النواميس الإلهية واستصحبتها هان على الملوك والرؤساء أن يتلمذوا للصالحين ويدخلوا نفوسهم تحت أحكامهم وإن شق عليهم فهم يرجحون علمهم بذلك على ما يدركونه من مشقة خلاف الغرض فإنه على هذا الشرط أدخل نفسه فحجته قائمة على نفسه فسبحان العليم الحكيم ولولا شرف العلم ما شرفت الفراسة لأن الفراسة لولا ما تعطي العلم ما شرفت ولا كان لها قدر فالعلم أشرف الصفات وبه تحصل النجاة إذا حكمه الإنسان على نفسه وتصرف في أموره بحسب حكمه رب زدني علما رب زدني علما رب زدني علما واستعملني له واجعله الحاكم علي والناظر إلي إذ أنت العلم والعالم والمعلوم لك لا لنا فاعطنا منه على قدرنا وأما الفراسة المذكورة عند الحكماء فإنا أذكر منها طرفا على ما أصلوه
(٢٣٧)