أمرها كلمح البصر أو هو أقرب كما هو سنة الإبداع فإذا كان مبدع البدائع ومكون الصنائع أنشأ الصور من غير مزاج وامتزاج وتركيب من أجزاء مختلفة حاصلة بأزواج أليق به وأولى وأسهل وأحرى من جمع متفرقات شتى وتأليف مختلفات تترى. فإذا صدر منه تعالى وجود الإنسان على نهج الامتزاج والتخمير من الأركان والأمشاج فليجز صدوره بهيئته الخاصة تارة أخرى على سبيل الإنشاء.
كيف والباري سبحانه فعله الخاص الذي هو الإبداع والإنشاء أرفع وأجل من الجمع بين الأشياء والتدرج في التكوين بالتغذية والإنماء فإن هذا شأن الطبائع والقوى التي هي في درجة القصوى من النزول عن العالم الأعلى. على أن الإيجاد على الإطلاق منه والوسائط مخصصات لإيجاده وحيثيات وجهات لتكثير إفاداته وإفاضاته لأن ما هو الأبسط في الوجود فهو الأقرب إلى الموجد الحقيقي.
وقد أومأنا إلى أن وجود أمور الآخرة أصفى من التركيب وأعلى من الامتزاج فالمقصود من هذه الآيات الاستدلال على قدرته على الإعادة التي هي بالحقيقة إنشاء النشأة الأخرى كما أن الابتداء هو إنشاء النشأة الأولى فكما أن في الابتداء فعله الخاص به تعالى ليس بالذات جمع المتفرقات من المواد بل إفاضة الصور على القابل بحسب الاستعداد كذلك حقيقة المعاد وفعله اللائق به إنشاء النشأة الأخرى وهو أهون عليه من إيجاد المكونات في الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى وما هو أبقى في الوجود وأتقن وأحكم في الصنع فهو أنسب به تعالى وهو أهون عليه وإليه الإشارة بقوله: و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون... أفرأيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون.
ومما يدل على أن إيجاد الأمور الأخروية أشبه بسنة الله التي هي الإبداع من الإيجاد لأمور الدنياوية أن إيجاد المواليد المكونة في هذا العالم وتبليغها إلى غاية خلقتها وإكمالاتها تدريجي ووجود الأخرويات دفعي حدوثا وإكمالا وكذا