فمن جملة آيات حكمته وعنايته الإنسان المخلوق من القوة الهيولانية ثم من التراب ثم من النطفة.
وأشير إلى المرتبة الأولى للإنسان في قوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..
وإلى المرتبة الثانية والثالثة بقوله: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج.
فانظر أيها الناظر في الأنفس والآفاق إلى النطفة وهي ماء قذرة لو تركت ساعة ليضر بها الهواء لتغير مزاجها وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب و الترائب وحفظها عن التبدد والافتراق ثم كيف جعلها وهي مشرقة بيضاء علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متشابهة متساوية إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من هذه الأجزاء والأعضاء البسيطة الأعضاء المركبة من الرأس واليد والرجل وغيرها وشكلها بأشكال مختلفة مناسبة لها بحسب جواهرها وأفاعيلها كما يستعلم من قواعد التشريح وغيره.
ولو نظر أحد حق النظر في حقيقة الإنسان وتدبر في ذاته حق التدبر لوجدها مشتملة على جميع طبقات الموجودات بحسب طبائعها وماهياتها دون أشخاصها وهوياتها ووجدها متصاعدة في استكمالاتها من أخس المراتب إلى أشرف الغايات حتى كان الإنسان قبل تكون بدنه أولا لا شيئا محضا مشاركا للمعدومات بلا اسم ورسم ثم مادة هيولانية ونطفة قذرة في غاية ضعف الوجود حيث ينعدم صورتها بأقل مصادمة برد أو حر أو غيرهما ثم تدرج في الاستكمال قليلا بعناية الله تعالى وقدرته فأفاض عليها صورة نباتية وخلق فيها قوة جاذبة للغذاء.
ثم إن تلك المادة لأجل شركتها للنباتات صارت أكمل وجودا من الحجر والمدر والحديد والنحاس وغير ذلك من الجواهر المعدنية إلا أن النباتات مع هذا الكمال ناقص فإنه لو أعوزه غذاء