عليه بالمغفرة هذا يعطيه الخبر الإلهي الصدق الذي لا يدخله الكذب فإنه محال على الجناب الإلهي فإن نظر العالم إلى أن خطاب الحق لعباده إنما يكون بحسب ما تواطئوا عليه وهذا خطاب عربي لسائر العرب بلسان ما اصطلحوا عليه من الأمور التي يتمدحون بها في عرفهم ومن الأمور التي يذمونها في عرفهم فعند العرب من مكارم الأخلاق أن الكريم إذا وعد وفى وإذا أوعد تجاوز وعفا وهي من مكارم أخلاقهم ومما يمدحون بها الكريم ونزل الوعيد عليهم بما هو في عرفهم لم يتعرض في ذلك لما تعطيه الأدلة العقلية من عدم النسخ لبعض الأخبار ولاستحالة الكذب بل المقصود إتيان مكارم الأخلاق قال شاعرهم وإني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي مدح نفسه بالعفو والتجاوز عمن جنى عليه بما أوعد على ذلك من العقوبة بالعفو والصفح ومدح نفسه بإنجاز ما وعد به من الخير يقال في اللسان وعدته في الخير والشر ولا يقال أوعدته بالهمز إلا في الشر خاصة والله يقول وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي بما تواطئوا عليه والتجاوز والعفو عند العرب مما تواطئوا على الثناء به على من ظهر منه فالله أولى بهذه الصفة فقد عرفنا الله أن وعيده ينفذه فيمن شاء ويغفر لمن شاء ومع هذه الوجوه فلا يتمكن زوال الرهبة من قلب العبد من نفوذ الوعيد لأنه لا يدري هل هو ممن يؤاخذ أو ممن يعفى عنه وقد قدمنا ما يجده المخالف عقيب المخالفة من الندم على ما وقع منه وهو عين التوبة فالحمد لله الذي جعل الندم توبة ووصف نفسه تعالى بأنه التواب الرحيم أي الذي يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له فيرزقه الندم عليها فيتوب العبد بتوبة الله عليه لقوله ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم وأما الرهبة الثانية التي هي لتحقيق تقليب العلم فيخاف من عدم علمه بعلم الله فيه هل هو ممن يستبدل أم لا قال تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم فقد أعطى السبب وهو التولي وقد أعطى العلامة وهو عدم التولي عن الذكر لا عن الله فإن التولي عن الله لا يصح ولهذا قال لنبيه فأعرض عمن تولى عن ذكرنا كيف يتولى عمن هو بالمرصاد والكل في قبضته وبعينه ولما كان مشهده تقليب العلم بتقليب المعلوم فإن العلم يتعلق به بحسب ما هو عليه فتغير التعلق لتغير المتعلق لا لتغير العلم فرهبته من تقليب العلم عين رهبته مما يقع منه فإن العلم لا حكم له في التقليب على الحقيقة وإنما التقليب لموجد عين الفعل الذي يوقع الرهبة في القلب وهو كونه قادرا ويتعلق العلم بذلك الانقلاب والمنقلب إليه قال تعالى ولنبلونكم حتى نعلم أي إذا ظهر منكم عند الابتلاء بالتكليف ما يكون منكم من مخالفة أو طاعة يتعلق العلم مني عند ذلك به كان ما كان وحضرة تقليب العلم قوله يمحو الله ما يشاء ويثبت فذكر المحو بعد الكتابة ويثبت ما شاء مما كتبه وعنده أم الكتاب وهي السابقة التي لا تتبدل ولا تمحى فلما علم عز وجل ما يمحو من ذلك بعد كتابته وما يثبت أضيف التقليب إلى العلم والتحقيق ما ذكرناه من تغيير التعلق وعدم التقليب في العلم وأما قوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فما أراد هنا تعلق علمه تعالى بأنهم يختانون أنفسهم وإنما المستقبل هنا بمعنى الماضي فإن اللسان العربي يجئ فيه المستقبل ببنية الماضي إذا كان متحققا كقوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وشبهه وقد كان الحق كلفهم قبل هذا التعريف أن لا يباشر الصائم امرأته ليلة صومه فمنهم من تعدى حد الله في ذلك فلما علم الله ذلك عفا عمن وقع منه ذلك وأحل له الجماع ليلة صومه إلا أن يكون معتكفا في المسجد فما خفف عنهم حتى وقع منهم ذلك ومن من شأنه مثل هذا الواقع فإنه لا يزال يتوقع منه مثله فأبيح له رحمة به حتى إذا وقع منه ذلك كان حلالا له ومباحا وتزول عنه صفة الخيانة فإن الدين أمانة عند المكلف وأما الرهبة لتحقيق أمر السبق فلقوله تعالى ما يبدل القول لدي وقوله لا تبديل لكلمات الله وإن كان يسوع في هذه الآية أن كلمات الله عبارة عن الموجودات كما قال في عيسى إنه كلمته ألقاها إلى مريم فنفى أن يكون للموجودات تبديل بل التبديل لله ولا سيما وظاهر الآية يدل على هذا التأويل وهو قوله فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لكلمات الله أي ليس لهم في ذلك تبديل وهذه بشرى من الله بأن الله ما فطرنا إلا على الإقرار بربوبيته فما يتبدل ذلك الإقرار بما ظهر من الشرك بعد ذلك في بعض الناس لأن الله نفى عنهم أن يكون لهم تبديل في ذلك بل هم على فطرتهم
(٥٣٤)