الحصول لما علم إن الله تعالى قد رتب أمورا واقتضى علمه أزلا أنه لا يكون كذا إلا بموضع كذا وبطالع كذا وبسبب كذا فلما حكم عليه هذا الإمكان وفقد قلبه في بعض المواطن عن وجود متقدم أولا عن وجود رحل عن ذلك الموطن رجاء حصول البغية هذا سبب اغترابهم عن الأوطان وأمثاله فإن بعضهم قد يفارق وطنه لما كان فيه من العزة فإذا رأى أنه قد زاد عزا بالزهد والتوبة أو لم يكن مذكورا فاشتهر بالتوبة والخير فأورثه عزا في قلوب الناس فوقع الإقبال عليه بالتعظيم فيفر ويغترب عن وطنه إلى مكان لا يعرف فيه لمعرفته بنفسه مع ربه فإن تعظيم الناس للشخص سم قاتل مؤثر فيه أثرا يؤديه إلى الهلاك وهذا أيضا من الأسباب المؤدية إلى مفارقة الموطن والاغتراب عن الأهل فحيث وجد قلبه مع الله أقام أخبرني شيخي أبو الحسين ابن الصائغ الزاهد المحدث بسبتة قال سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن رزق رحمه الله في سياحة كنا معه فيها اقرأ عليه بعض أجزاء الحديث وكان صاحب رواية يقول مررت في سياحتي بمسجد خراب في فلاة من الأرض فقلت أدخل اركع فيه ركعتين فدخلته فوجدت قلبي فقعدت فيه سنتين فأين زمان ركعتين من سنتين فمطلوبهم بالغربة عن الأوطان وجود القلب مع الله فحيثما وجدوه قاموا في ذلك الموضع قال بعضهم كنت مارا إلى مكة فرأيت في الطريق شابا تحت شجرة وهو يصلي في البرية وحده فقلت له ألا تمشي إلى مكة فقال لي كنت أسير إلى مكة عام أول فلما مررت بهذه الشجرة وجدت قلبي فلي هنا سنة لا أبرح من هذا الموضع إلا إن فقدت قلبي قال فبعد سنة مررت بذلك الموضع وبتلك الشجرة فلم أجد الشاب فمشيت غير بعيد فإذا بالشاب قائم يصلي فسلمت عليه فعرفني فقلت له رأيتك قد تركت تلك السمرة فقال لي لما فقدت قلبي أخذت في طريقي الذي نويت أولا أريد مكة فانتهيت إلى هذا الموضع فوجدت قلبي فإنا به أيضا مقيم فقلت له من أين طعامك وشرابك قال من عنده يجيئني به في الوقت الذي يريد أن يغذيني قال فتركته وانصرفت وما أدري ما انتهى إليه أمره بعد ذلك فقد يطلبون بالغربة وجود قلوبهم مع الله وأما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم فإن الممكن وطنه الإمكان فيكشف له أنه الحق والحق ليس وطنه الإمكان فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود ولما كان الممكن في وطنه الذي هو العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له كن فسارع إلى الوجود فكان ليرى موجدة فاغترب عن وطنه الذي هو العدم رغبة في شهود من قال له كن فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات ولم يشهد الحق الذي سارع إلى الوجود من أجله وفي هذه الحال قلت إذا ما بدا الكون الغريب لناظري * حننت إلى الأوطان حن الركائب يقول فأردت الرجوع إلى العدم فإني أقرب إلى الحق في حال اتصافي بالعدم مني إليه في حال اتصافي بالوجود لما في الوجود من الدعوى وطلب حالة الفناء عن الحق للبقاء بالحق هو أن يرجع إلى حالة العدم التي كان عليها فهذه غربة أيضا موجودة واقعة عن وطن بغير اختيار العبد ومن غربة العارفين بالله غربتهم عن صفاتهم عند وجودهم الحق عين صفاتهم وهذه غربة حقيقية فإن الصفة مضافة إليهم بكلام الله وهو الصادق فهم أهل صفة ولكن ما هي تلك الصفة وإلى من تضاف حقيقة فإن العالم يضاف إلى الله بأنه عبد الله كما إن الله مضاف إلى العالم فإنه رب العالمين فإضافة العبد مستندة إلى إضافة الحق فأول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة فكانت الدنيا وطننا واتخذنا فيها أوطانا فاغتربنا عنها بحالة تسمى سفر أو سياحة إلى أن اغتربنا عنها بالكلية إلى موطن يسمى البرزخ فعمرناه مدة الموت فكان وطننا ثم اغتربنا عنه بالبعث إلى أرض الساهرة فمنا من جعلها وطنا أعني القيامة ومنا من لم يجعله وطنا فإنه ظرف زماني والإنسان في تلك الأرض كالماشي في سفره بين المنزلتين ويتخذ بعد ذلك أحد الموطنين إما الجنة وإما النار فلا يخرج بعد ذلك ولا يغترب وهذه هي آخر الأوطان آخر الأوطان التي ينزلها الإنسان ليس بعدها وطن مع البقاء الأبدي وأما قولهم في الغربة إنها الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه فتلك غربة أخرى وذلك أن أصحاب الأحوال لا شك أن لهم النفوذ والتحكم وبها يكون خرق العوائد لهم المشهورة في العالم فإذا اطلعوا على إن الحال لا أثر له فيما ظهر له من الفعل عند قيامه بهم فيما أعطاه الكشف لم يرضوا به فاغتربوا عنه وقالوا الوقوف معه وبال على صاحبه فيرون أن الغربة عنه غاية السعادة وأنه من أعظم
(٥٢٨)