فإن قال قائل: فلم لا كان الصبيان أكثر احتمالا للشراب من الشبان وفعله فيهم فعل الغذاء والدواء معا، وفى الشبان فعل الغذاء فقط؟ فقلنا له: إن الصبيان أرق أعصابا وأضعف أدمغة، فلذلك قل احتمالهم له وضعفوا عن الكثير منه. ولذا السبب بعينه صار الشبان أكثر احتمالا للشراب من المشايخ، لان المشايخ أرخى أعصابا وأضعف أدمغة. فقد بان واتضح ان الشراب لكل الناس محمود (1) إذا استعمله كل واحد منهم بحسب الطاقة والعادة والاحتمال. وعلى هذا المثال يجري القياس في منفعته في الأزمان المختلفة والأمصار المتباينة إذا استعمل في كل زمان من الأزمنة وبلد من البلدان بحسب طبيعة كل واحد منها ومزاجه. ويستدل على ذلك من آثاره وفعله لأنا لا نجده في زمان من الأزمنة ولا في بلد من البلدان محمودا مطلقا، ولا في غيرها مذموما مطلقا. ولا نجد أحدا من الطبيعيين يمدحه في زمان من الأزمنة وبلدة من البلدان ويذمه في غيرها، ولا يبيحه في الشتاء والبلدان الباردة، ويحذر منه في الصيف والبلدان الحارة، ولا يطلقه في الربيع والبلدان الرطبة، ويمنع منه في الخريف والبلدان الجافة الا على سبيل التقليل والتكثير والزيادة والنقصان وكثرة المزاج وقلته، وذلك أنه وان كان الكثير منه المصرف الجبلي موافقا في الشتاء والبلدان الباردة، فان القليل منه البعلي الكثير المزاج موافقا في الصيف وفي البلدان الحارة لأنه يبرد الأبدان ويرطبها بما يصلحه من الماء بكثرة مزاجه ويمنع حرارة الهواء من الاسخان للأعضاء وتجفيفها بإيصاله الماء بتلطيف حرارته وسرعة نفوذه إلى جملة البدن دفعة.
ولذلك شبهت الأوائل فعل الشراب بفعل ترياق الفاروق، كما شبهت ترياق الفاروق بفعل الطبيعة، وذلك لأنهم وجدوا الترياق يفعل في المتضادات من السمائم لأنه يفعل في السم الحار كما يفعل في السم البارد. وكذلك وجدوا الشراب يفعل الشئ وضده، لأنه يسخن الأبدان الباردة ويبرد الأبدان الحارة ويرطب الأبدان الجافة ويجفف الأبدان الرطبة، الا أن إسخانه وتجفيفه بالطبع وترطيبه وتبريده بالعرض، لان بلطافته وسرعة نفوذه يوصل الماء الذي يمزج به إلى الأعضاء المحتاجة إلى التبريد والترطيب فيبردها به ويرطبها. ولذلك صار كثيرا ما يبلغ من منفعته لقطع العطش ما لا يبلغه الماء البارد المبرد وبخاصة إذا كان سبب العطش الحرارة والجفاف على الأعضاء البعيدة من المعدة، لأنه بسرعة نفوذه وجولانه يغوص الماء ويوصله إلى الأعضاء الجافة بسرعة، الا ان فعله في جميع ما ذكرناه يزيد وينقص ويقوى ويضعف بحسب اختلاف أجناسه وصنوفه. وذلك أنه ينقسم قسمة أولية على ثلاثة ضروب: لان منه الحديث لسنته أو لبعض أخرى، ومنه العتيق المتقادم الذي قد جاوز الأربع سنين إلى السبعة أو أكثر من ذلك، ومنه المعتدل الزمان المتوسط بين السنتين والأربع.
فما كان منه حديثا لسنته أو لبعض أخرى، كان في طبيعته مائلا إلى البرودة والرطوبة، لان حرارته ويبسه في الدرجة الأولى. وما كان بهذه الحال من ضعف الحرارة وقلة اليبوسة والقرب من البرودة والرطوبة، كان أكثر الأشربة غذاء وأخصها بتوليد الأخلاط الرديئة والأحلام الفاسدة والرياح