القول في الشراب أما الشراب فيغذو غذاء حسنا محمودا ويعين على صحة الأبدان ويقويها. وذلك أنه إذا أخذ على ما ينبغي وكيف ينبغي وما احتملته الطباع، قوى الهضم وأعان على نضجه وكماله وجودته. وليس إنما يقوي الهضم الأول الكائن في المعدة فقط، لكنه قد يفعل مثل ذلك في الهضم الثاني الكائن في الكبد وفى الهضم الثالث الكائن في كل الأعضاء، لان من الممتنع أن يشك أحد من الطبيعيين في أن الغذاء ينفذ في جميع البدن وينهضم في كل الأعضاء وينتقل إليها ويتشبه بها ويزيد فيها ويقويها. ولولا ذلك لما نمت الأعضاء، ولا انبسطت، ولا قويت بعد ضعف، ولا سمنت بعد هزال. وقد يستدل على ذلك أيضا من الحس لأنا نجد الكروم إذا سقيت بالماء الا قليلا حتى يصل الماء إلى العنب ويجول فيه. ويرى ذلك حسا ثم ينهضم بعد ذلك ويتشبه بالعنب ويزيد فيه ويعظم بعد صغر، ويعذب بعد حموضة. وإذ ذلك كذلك، فمن البين أنه إذا انهضم في الأعضاء وتشبه الغذاء بالمغتذي وزاد فيه وقواه، أن ذلك من أوكد الأسباب وأوفق الدلائل على وجود الصحة وبقائها وصحة القوة ودوامها.
وقد أجمع الطبيعيون على أن قوة الهضم وجودة الاستمراء لا تكون الا بقوة الحرارة الغريزية.
وليس شئ أرفد للحرارة الغريزية ولا أعضد لها من الشراب. ذلك لاختصاصه بالطبيعة ولملاءمته لحرارة بدن الانسان ومشاكلته لمزاج الدم الطبيعي وسرعة انقلابه إليه. وقد يستدل على ذلك بالتجربة والمحنة الطبيعية. وذلك أن إنسانا لو قصد رجلين متكافئين في القوة والسن والمزاج والعادة فغذاهما بغذاء واحد في وقت واحد وهواء واحد، ثم أمر أحدهما بشرب الشراب واقتصر الاخر على شرب الماء لوجد بينهما في جودة الهضم وقوة الحرارة الغريزية بونا بعيدا، لأنه كان يجد ذلك في شارب الشراب أقوى وأفضل، وفي شارب الماء أضعف وأخس. ولذلك قال روفس: وإذا فكر الانسان في فضل الرجال على النساء وجد ذلك لفضل قوة الشراب على الماء.
وليس انما فضيلة الشراب في تقوية الحرارة وجودة الهضم فقط، لكن فيه مع ذلك منفعة عظيمة في تصفية الدم الكدر وتلطيفه وتنقية العروق والأوراد من الأوساخ والأثفال الرديئة، من قبل أنه إذا اتخذ