في الإنفحة وأما الإنفحة، فيابسة حريفة بطيئة الانهضام عسيرة الانحدار محرقة للدم بحرافتها وحدتها.
في الجبن وأما الجبن، فمركب من قوى ثلاثة: إحداها: قوة اللبن، والثانية: قوة الإنفحة، والثالثة: قوة الملح. واللبن على ما بينا وأوضحنا، مركب من جواهر ثلاثة: جوهر الجبن، وجوهر السمن، وجوهر الرطوبة. ولذلك انقسم الجبن على ثلاثة أقسام: أحدها: الطري الكثير المائية. والثاني: العتيق الكثير الجبنية القليل المائية، لان قوة الإنفحة قد غلبت عليه بحدتها وحرافتها وإفراط يبسها وجففت أكثر رطوبته وأفنتها، وإن كانت الإنفحة غير مفارقة للجبن في كل حال، فإن قوتها في الجبن الطري يخفى لكثرة مائيته ورطوبته. والثالث: الجبن اليابس الحديث المتوسط بين رطوبة الطري ويبس العتيق.
ولذلك صار هذا النوع معتدلا في جواهره الثلاثة.
وإذ أتينا على أقسام الجبن وبيناها وأوضحناها، فقد بقي أن نخبر بخاصة كل واحد منها، وفعله وجوهريته، وطبعه. ونبتدئ من ذلك بالطري منه.
فأقول: إن الجبن الطري يولد خلطا ليس بالردئ، لأنه في لطافة غذائه وسرعة انهضامه، متوسط بين لطافة اللبن الحليب والجبن اليابس الحديث، لما فيه من بقايا عذوبة اللبن الحليب ومائيته.
ولذلك صار أسرع انهضاما وانحدارا، وأحمد غذاء، وأعون على تليين البطن من الجبن الحديث والعتيق جميعا، وبخاصة متى لم يكن فيه ملح مقدار ما يزيل عنه عذوبة اللبن وحلاوته.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن كل جبن لا يكون فيه طعم غير العذوبة، فهو أحمد وأفضل مما قد غلب على طعمه الملوحة والحرافة، لان الملوحة متى كانت قوية أفادت الجبن يبوسة وجفافا وإضرارا بالمعدة، ومنعته من ترطيب البدن وزيادة في اللحم. ومتى لم يكن في الجبن ملح أصلا، كان أكثر لغذائه، وأسرع لانحداره، وأقوى على ترطيب الأبدان وزيادة اللحم، من غير إضرار بالمعدة إلا أن يستحيل إلى الدخانية أو إلى الحموضة، فيضر بالمعدة إضرارا بينا، لأنه كثيرا ما