الوجه الثالث من الباب الثالث في الوقوف على معرفة الأغذية من أجرامها وجواهرها أما أجرام الأغذية فتختلف على ثلاثة ضروب: لان منها الرطب اللين الشديد الرخاوة مثل البطيخ والتوت وما شاكلهما. ومنها القحل الجاف الشديد الصلابة مثل الجاورس (1) وبعده العدس. ومنها المتوسط بين هاتين الحاشيتين مثل الخبز المحكم الصنعة واللحم الكامل النضج.
فما كان منها لينا رخوا كان انهضامه أسرع، وانقلابه إلى الدم أسهل، وقربه من التشبه بالأعضاء أسلس، إلا أنه أسرع الأغذية استحالة إلى الفساد، وأقلها لبثا في الأعضاء. ولذلك صارت لا تفيد الأعضاء من القوة إلا اليسير جدا، لان ما كان من الأغذية ألطف، فما يصل إلى الأعضاء من غذائه أقل وأضعف. وما كان من الأغذية أصلب كان انهضامه أعسر، وانقلابه إلى الدم أبعد، وقربه من التشبه بالأعضاء أمنع. ولذلك صار لا يغذو البدن إلا من بعد أن تقهره الطباع وتقوى عليه، ذلك لغلظه وقربه من الأرضية، وبعد انقياده للانفعال. إلا أن الطباع متى قويت عليه وجاد (2) هضمه في المعدة والكبد جميعا، ولد دما غليظا وغذا غذاء كثيرا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: كل طعام صلب فمن قبل أنه أغلظ فكأنه أقرب إلى الأرضية.
ولذلك صار متى قويت الطباع عليه كان ما ينال البدن من غذائه أكثر وأغلظ مما يناله مما هو أرطب لان جوهره باق (3)، وإن كانت خاصة ما كان من الطعوم كذلك أن يكون عسير الانهضام والاستمراء بعيد الانقلاب إلى الدم.
وله فصل آخر قال فيه: إن الطعام الصلب، مع بعد انهضامه، يولد دما غليظا جدا. وجوهر الطعام الذي هو أرطب وألين أرق وألطف كثيرا من قبل أن كل ما ينفذ من جوهر كل غذاء إلى جميع البدن فغير بعيد من طبيعة الغذاء الذي هو منه لان من حق الطباع ألا تولد من كل شئ إلا ما كان سببها