القول في السمك قد كنا تكلمنا في السمك في المقالة الأولى من كتابنا هذا كلاما جمليا، وأتينا على اختلاف أنواعه وأصنافه وجودة تغذيته من رداءته، وسرعة انهضامه من إبطائه، والمحمود منها من المذموم، والأفضل من الأخس. وأنا ذاكر في هذا الموضع جملة من ذلك لتكون تذكرة لمن نظر في مقالتنا هذه، ومما يستغنى به عن النظر في المقالة الأولى إلا في الندرة، وعند الحاجة إلى إقامة البرهان على ما يقصد إليه من ذلك. ولا قوة إلا بالله تعالى.
فأقول: أما طبيعة السمك في الجملة فباردة رطبة مولدة للبلغم، موافقة لمن كان مزاجه محرورا وجسمه جافا، لا سيما في زمان الصيف وفى البلدان الحارة، ومذمومة (١) فيمن كان مزاجه باردا وجسمه لحميا عبلا، ولا سيما متى كان بعصبه بعض الاسترخاء، لا سيما في الشتاء وفى البلدان الباردة، لان من خاصته ترطيب الأبدان وتبريدها. ولذلك صار زائدا في جماع من كان محرورا صفراويا. وقد يختلف السمك على ضروب، لأنه ينقسم قسمة أولية على ثلاثة أنواع. وذلك أن منه النهري وهو لا يتولد إلا في الأنهار العذبة فقط. ومنه ما يتولد في الماءين جميعا (٢). فأما الذي يتولد في البحر <فمنه> ما يصعد إلى الأنهار العذبة لاستلذاذه لعذوبة مائها. ومنه ما يكره ذلك وينفر منه. فأما الذي يتولد في الماء العذب فكله يكره الماء المالح وينفر منه، ولذلك صار لا ينحدر منه إلى البحر إلا ما أخذته قوة جري الماء المنصب إلى البحر. وأما ما يتولد من الماءين جميعا فإن ما يتولد منه في البحر يصعد إلى الأنهار ويصاد منها كثيرا. والقليل ما يتولد منه في البحر وبين ما يتولد منه في الأنهار، لان الذي يتولد في البحر فشوكه أقل وأغلظ وأصلب لجفاف مائه الذي يأوي ويتولد فيه بالطبع. والذي يتولد في الأنهار فشوكه أدق وأكثر وألين، وذلك لليانة مائه ورخاوته بالطبع. والسبب في كثرة شوكه: أن الطبيعة احتاجت إلى أن تنسجه شوكا كثيرا كيلا يسترخي لرخاوة جسمه ورطوبة لحمه.