وما يحتاج إليه حتى تنضج غاية النضج، ثم الق فيها (1) السمك وهي حارة تغلي، فإن ذلك مما يطيب طعمه ويكسبه لذاذة، ويصير الدم المتولد عنه أحمد.
وأما استعمال السمك على حسب طبائع المستعملين له، فيكون على ضروب: لان من الناس من يكون مزاجه معتدلا. ومنهم من يكون مزاجه حائدا عن الاعتدال، إما إلى الحرارة، وإما إلى البرودة، وإما إلى الرطوبة، وإما إلى اليبوسة. فمتى كان مزاج المستعمل له معتدلا، كان أفضل ما يتخذه مشويا أو مقليا بالزيت والمري والشراب، وإن كان المشوي أفضل كثيرا من المقلي. وإن كان مزاج المستعمل له حائدا عن الاعتدال، وجب أن يقابل من الأبازير بضد الكيفية التي غلبت على مزاجه. مثال ذلك، إن كان الغالب على مزاج المستعمل له الحرارة، كان من الأفضل له أن يستعمل إما سكباجا (1) ساذجة، وإما مسلوقا (2) مطيبا (2) بالخل وشئ من مري. فإن كان مزاج المستعمل له باردا اتخذه مطيبا بالشراب القوي والخردل والزنجبيل والفودنج الجبلي والفلفل. وإن كان مزاجه مرطوبا، اتخذه مشويا مطيبا بالخردل والخل الحاذق والمري والشراب القوي والصعتر والفودنج والزنجبيل والفلفل. وإن كان مزاجه يابسا، استعمله أسفيذباج بماء وملح وشبت.
* * * في ما يملح من السمك وغيره كل ما يحفظ ويبقى زمانا طويلا، فلا يخلو ذلك من أن يكون بالعسل، وإما بالشراب، وإما بالخل، وإما بالملح. وما يحفظ بالعسل، فإن العسل يفيده حرارة وجفافا. وما يحفظ بالشراب، فإن الشراب يفيده من الحرارة واليبس أكثر مما يفيده من العسل. وما يحفظ بالخل، فإن الخل يفيده عوض الحرارة برودة. وما يحفظ بالملح، فإن الملح يفيده من الحرارة مثلما يفيده الشراب، ومن اليبس أكثر مما يفيده الخل. إلا أنه لا يفعل في حبس البطن ما يفعله المحفوظ بالخل، لكنه يطلق إطلاقا بينا. ولا ينقلب أيضا إلى الليانة والرخاوة دائما، لكنه ربما انقلب إلى أن يصير أصلب مما كان، لان الملح يفعل في الأشياء على حسب قبولها وانفعالها في ذواتها، لا على حسب طبيعته في ذاته، كالذي نشاهده من فعل النار في الأشياء، لأنا نجدها تذيب الرصاص وتحرق الطين. والسبب في ذلك أن الأجرام لما كانت مختلفة في اليبس والرطوبة، والغلظ واللزوجة، وكان الملح مركبا من قوى مختلفة بعضها حار محلل ملطف، وبعضها يابس مجفف مصلب، وجب أن يختلف فعله في الأجرام على حسب انفعالها في ذواتها، لا على حسب فعله في ذاته، لأنه يفعل في الأشياء فعل النار فيها. وذلك أن النار في طبيعتها حارة يابسة، والحرارة فيها أسبق وأقوى لأنها الفاعل الأكبر.