الباب الثاني في وجود السبيل إلى الوقوف إلى طبائع الأغذية قال إسحاق بن سليمان: أجمع الأوائل على أن الوقوف على طبائع الأغذية يكون بطريقين:
أحدهما التجربة، والآخر (1) القياس. وذلك أنه لا يشك أحد في التجربة أنها قد تدل على سرعة الانهضام وإبطائه، وجودة الغذاء ورداءته، وملاءمته لمزاج بدن المغتذي أو مخالفته له، وموافقته للمعدة أو إضراره بها، وتليينه للطبيعة أو حبسه لها. إلا أن الامر وإن كان كذلك، فليس يجب أن تكون التجربة معراة من القياس، لان كثيرا ما يدخل أهلها الشبه والالتباس حتى يقودهم ذلك إلى الحيرة والشكوك، من قبل أن الأغذية قد يختلف فعلها وانفعالها في الأبدان لثلاثة أوجه: إما لاختلاف طبائع البشر ومزاجاتهم (2). وإما لاختلاف كيفية الغذاء في طبيعته وبسطه وتركيبه. وإما لاختلاف استعماله وضرره واتخاذه. وذلك أنا كثيرا ما نشاهد الواحد من الأغذية محمودا في قوم ومذموما في غيرهم، ومطلقا للبطن في قوم وحابسا لها في غيرهم. ومن أجل ذلك قال رجل من المبرزين المشهورين بمعرفة الطبيعيات يقال له أرسسطراطس، قال قولا صدق به جميع من سمعه، ووافقه أيضا عليه جالينوس، وهو أن قال أن بعض الناس يستمرئون لحم البقر وما شاكله من الأغذية الغليظة البطيئة الانهضام أكثر من استمرائهم لحم الدراج والفراريج ومحمود السمك. وأن الغسل موافق لقوم محمود عندهم يقولون: أنه مطلق للبطن مهيج للأمراض. وأن العدس والكرنب لا يحبسان الطبيعة في كل الناس، بل يفعلان (3) ضد ذلك وعكسه في كثير من الناس.
ومن قبل ذلك وجب ألا يطلق القول في شئ من الأغذية بأنه ضار أو نافع، أو حابس للبطن، أو مطلق له، وموافق للمعدة أو مؤذ لها دون الفحص عن ثلاثة وجوه: أحدها، معرفة طبائع أبدان المستعملين للأغذية وتركيبها وأمزجتها. والثاني، معرفة اختلاف الأغذية في طبائعها وبسطها وتركيبها.
أعني ببسطها ما كان منها له قوى مختلفة مركبة. والثالث، كيفية انتقال الغذاء واستحالته في الأبدان.