والحركة فلا يكونان إلا بقوة من الحرارة الغريزية، لم يمكن أن يكون الدماغ باردا لان البرودة من شأنها أن تحصر الرطوبات وتغلظها وتخدر الحس وتمنع من الحركة وتفسدها. وقال في موضع آخر: أن الدماغ لو كان باردا، لعدم الانسان الفكر والذكر والفحص والتمييز لامتناع وجود ذلك مع ضعف الحرارة ونقصانها. وقد يستدل على ذلك من الشاهد، لأنا نجد من قد غلب على مزاج دماغه البرد، بعيد الفكر دائما، قليل الذكر، فاسد التمييز.
فقد بان من قول الفيلسوف أن الدماغ حار رطب باعتدال، إلا أن الطبيعة احتالت وأكسبته برودة عرضية تمنع من التهابه كيلا يحترق بدوام حركته وجولان فكره، فجففت ما غلى، فجف الدماغ من الشحم واللحم، بل صيرته معرى من ذلك ليصل إلى الدماغ من لطيف الهواء الخارج ما يسكن حره العرضي المكتسب من الحركة، ويمنع من التهابه، كما احتالت للقلب بالرئة والتنفس، ليصل إليه من لطيف الهواء ما ينفي من البخارات الغليظة الحارة عنه ويرده إلى اعتداله وطبيعته كيلا تختنق الحرارة الغريزية وتطفأ.
في النخاع أعني مخ الفقار. فأما النخاع فمتصل بالدماغ. ولذلك ما قيل أنه من جوهر الدماغ، إلا أنه أصلب كثيرا وبخاصة طرفه الأسفل من الصلب القريب من الذنب، لأنه كلما بعد من الدماغ قلت رطوبته وازداد صلابة. ولذلك لا يغثي كما يغثي الدماغ ومخ العظام والدسم، لأنه أقوى رطوبة ودسما منها كثيرا. إلا أنه إذا استحكم انهضامه نال البدن من غذائه غذاء ليس باليسير.
وأما الأعضاء المتوسطة بين الليانة والصلابة، أعني العضل واللحم الأحمر المعرى من الشحم، فإنها في غاية الاعتدال والتوسط بين الكيفيات الأربع. ولذلك صارت أعدل الأعضاء وأسرعها انهضاما وأسهلها نفوذا في العروق وأفضلها في تقوية البدن، إلا أنها تنقسم قسمين: وذلك أن منها الخالص الصحيح مثل البشتمازق ووسط العضل، ومنها الشبيه باللحم مثل الضرع والخصي والنغانغ والحنجرة والحلبلوب الذي إلى جانب القلب والرقبة.
فما كان منها خالص اللحم، كان الأغلب على مزاجه الجوهر الدمي، لأنه دم منطبخ منعقد منسوج بأعصاب دقاق وشيريانات (1) وعروق تخفى عن الحس للطافتها. ولذلك صارت أكثر الأعضاء دما وأعدلها غذاء وأبعدها من اللزوجة والغلظ. وقد يستدل على ذلك من جهتين:
إحداهما: أن ليس فيها (2) من الرطوبة واللزوجة ما يطفو على الطعام ويربو في المعدة ويشبع بسرعة عن غير حقيقة كما يفعل الشحم والدسم، لكنها تهبط سفلا وتستقر في موضع الطبخ من المعدة