المكدرة لنور الحياة والحرارة الغريزية المفسدة لضيائها المولدة للهموم والأحزان، غير أنه لثقل حركته وبعد انفعاله، صار لا يترقى إلى الرأس بسرعة، ولا يسكر من قرب. وإذا أسكر، كان انحلال خماره أعسر.
وأما ما كان من الشراب رائحته متوسطة بين اللطافة والغلظ، والخفة والثقل، والسرعة والابطاء، كان في فعله وانفعاله أجدى من الحاشيتين بقسطه بقدر يقدر توسطه بينهما وانحرافه إلى إحدى الحاشيتين دون الأخرى.
وما كان من الشراب له رائحة كريهة مفسدة للحاسة منافرة للطباع، كان مذموما (1) جدا ردئ الكيموس، فاسد الجوهر، وبحسب رداءة الكيموسية وفساد جوهره ومنافرة الطباع له، كذلك نكاءته للدماغ وإضراره للحس والعصب وحجب الدماغ، لأنه يولد دما مذموما فاسدا تعافه الطباع وتأباه، ولا سيما إذا كان مع ذلك قابضا ثقيل الحركة، لان انهضامه يكون أعسر وانحداره أبعد. ولذلك قال جالينوس: وينبغي أن نتجنب من الشراب ما كانت رائحته بشعة كريهة، لا سيما إذا كان قابضا، لأنه أبعد لانهضامه وأفسد للدم المتولد عنه.
* * * في ما يلحق الشراب من الاختلاف بحسب قوته وضعفه أما قوة الشراب فتنقسم قسمة أولية على ثلاثة (2) ضروب: لان منه القوي جدا، ومنه الضعيف جدا، ومنه المتوسط بين ذلك، وإن كان قد يقع بين الواسطة من ذلك وبين الحاشيتين وسائط أخر تدق العبارة عنها باللفظ. فما كان من الشراب قويا صلبا، كان إسخانه أكثر وترقيه إلى الرأس أسرع وفرغه للذهن أقوى وأشد، لأنه يملا الرأس بخارات حارة لذاعة. ولذلك سماه أبقراط الخمر الخميري (3). وما كان منه ضعيفا، كان فعله بخلاف فعل الأول وعكسه. ولذلك سماه أبقراط الخمر المائي. ولهذه الجهة صرنا إذا وجدنا الشئ إذا تقوى به الشراب المائي في شراب (4) من الأشربة قويا، سمينا ذلك الشراب خمريا. وإذا وجدناه في شراب من الأشربة ضعيفا، سميناه مائيا لقربه من المشاكلة لقوة الماء في طعمه ولونه وقوامه وضعف إسخانه. وما كان من الأشربة متوسطا بين الحاشيتين جميعا، كان أجدى من كل