الوجه الثاني من الباب الثالث في معرفة الأغذية من روائحها أما روائح الأغذية فقد اختلفت الأوائل فيها على ضروب لان منهم من قال أن لها دلائل تساوي دلائل الطعوم، ومنهم من قال أن لها دلائل إلا أنها ضعيفة لا يوثق بمثلها.
فأما الذين أوجبوا لها دلائل فقالوا: إنا وجدنا البخارات تؤثر في حاسة الشم كتأثير الطعوم في حاسة الذوق، لأنا لم نجد فعل الحرافة والحموضة في حاسة الشم بدون فعلها في حاسة الذوق، فكان في ذلك دليل على أن للروائح من الدلائل مثلما للطعوم من الدلائل.
فقال لهم من خالفهم في ذلك ورد عليهم، أن الأصل الذي عليه قستم هذا القياس فاسد، والمقدمات التي قدمتموها لاستخراج النتيجة غير صحيحة، لأنكم أجزتم علة في غير معلولها، وصيرتم الدليل عليها بغير أثرها. وذلك أنكم جعلتم دليلكم على دلالة حاسة الشم على طبائع الأغذية فعل الحرافة والحموضة في الحاسة من التلذيع والتقطيع، فقدمتم مقدمة خارجة عن وجه القياس، لان التقطيع والتلذيع ليسا بمحسوسات للشم فيدلان عليه. بل إنما هما محسوسات للمس لان لكل حاسة محسوسات تختص بها لا تجاوزها إلى غيرها، مثل الألوان والاشكال التي هي محسوسات البصر، والأصوات والنغم التي هي محسوسات للسمع، والروائح والبخارات التي هي محسوسات للشم، والتقطيع والتلذيع والحرارة والبرودة التي هي محسوسات للمس. وكل واحدة من هذه الحواس تنفرد بعضو واحد لا يتجاوزه إلى غيره خلا حاسة اللمس فإنها تشمل الأعضاء الآلية. ولهذا ما صارت العين تحس الألوان والاشكال بطبعها وجوهريتها، وتحس بالتلذيع والتقطيع بما فيها من قوة اللمس بالعصب الذي فيها، فليس من حيث ما حست الألوان والاشكال أحست التلذيع لأنها حست الألوان والاشكال بقوتها البصرية الروحانية، وأحست التقطيع والتلذيع بما فيها من العصب الحاس. والدليل على ذلك أنا نجدها تحس بألم الدواء إذا جعل فيها. وهي بطبائعها وجواهرها، وتحس غير محسوس (1) مغمضة لا تبصر شيئا. وكذلك اللسان والاذن والخياشيم، فإنما تحس محسوساتها المخصوصة بها بطبائعها