القول في كيفية امتحان المياه والوقوف على لطيفها من غليظها وخفيفها من ثقيلها فيكون على ما أصف، والله الهادي بجوده وسعة رحمته. وهو أن يؤخذ ثوب كتان ناعم ثم يشق بنصفين ثم ينزلان في ماءين مختلفتين، ويفرك كل واحد منهما في مائه الذي هو فيه عركا جيدا، ويعصران ويجففان في موضع واحد وهواء واحد ووقت واحد. فإن ما جف قبل صاحبه فماؤه ألطف وأخف. ومن أفضل ما يصفى به الماء للمحرورين الطين الأرمني والطين الرومي والطين الجزري المعروف بالقيموليا والطباشير. فأما المرطوبون (1) فيصفى لهم بماء اللوز المر ونوى المشمش والشبت الأبيض المنبوت وقطع خشب الساج أو في حرارة الشمس الصيفية. وأما المعتدلو المزاج فيصفى لهم بماء اللوز الحلو وسويق الحنطة والآجر الأحمر المسحوق المعمول من الطين الحر العذب. وإذا شرب الماء الشديد البرودة والمياه الكدرة الرديئة بالشراب الأبيض الخمري القابض، دفع ضررها، وذلك أن المياه الكدرة الفاسدة الطعم إذا شربت استحالت في المعدة بسرعة وفسدت وأفسدت جوهر المعدة وأضعفت قواها، وإذا ضعفت قوى المعدة، تحللت إليها من البدن كله فضول مرية كما ينجلب إلى معد المدمنين على الصوم إذا حميت معدهم وضعفت قواها لعدمها الغذاء. فإذا خرجت هذه المياه بالشراب الأبيض الخمري القابض، أطلقتها وهضمتها ومنعت من استحالتها وحلت قوة ما لعله قد يجلب إلى المعدة من الأخلاط وكسرها كما يحل الماء العذب قوة الشراب الصرف ويكسر حدته.
وليس إنما فضيلة هذا النوع من الشراب في هذا الموضع تحليل الفضول فقط، لكن لأنه بعقب ذلك يقوي فم المعدة بقبضه ويعينها على دفع ما يؤذيها إلى أسفل ويخرجه مع الثقل. فأما الماء الشديد البرد فإنه كثيرا ما يضر عصب الصدر والمعدة والأمعاء وسائر العصب بقوة برده، ويحدث في البطن كله وجعا، ويولد ضيقا في الصدر وآلات التنفس وانقباضا في عروق الصدر وخدرا في العصب كله وتشنجا وفالجا. فإذا مزج بالشراب اعتدلت برودته بلطف حرارة الشراب، وزال عنه إضراره بالعصب. ولذلك وجب على كل من كان مرطوبا، إما من الطبع، وإما من السن، وإما لحال عرضت له، أن يمتنع من شرب الماء البارد أصلا ولا يقربه إذا أمكن ذلك. فإن هو اضطر إلى شربه، فلا يقدم عليه إلا بعد طبخه في قدر جديدة لم تستعمل قبل ذلك أو قدر فخار كذلك، إلى أن يذهب منه الثلث أو النصف ثم يطيب بمصطكى