القول في الخبز وأما الخبز، فقد كنا بينا فيه آنفا أنه في طبيعته أسخن من الحنطة التي يعمل منها. إلا أنه قد يختلف في جودة غذائه ورداءته من أربعة وجوه: أحدها: من عنصره وهيولاه، أعني بذلك دقيقه.
والثاني: من صنعته وعمله. والثالث: من ناره التي يخبز فيها. والرابع: من وجوه استعماله.
فأما الدقيق، فيختلف من ثلاثة أوجه: أحدها: من جوهره: والثاني: من طحنه. والثالث: من مقدار مدته وبعده من الطحن أو قربه به. فأما جوهره الدقيق، فينقسم في جنسه على قسمين متضادين:
لان منه العلك الكثير الجوهر واللباب، القليل القشر والنخالة. ومنه الرخو الخفيف القليل الجوهر واللباب، الكثير القشر والنخالة. فما كان منه علكا كثير الجوهر واللباب، كان غذاؤه أكثر وانحداره عن المعدة أبعد وانهضامه أعسر. فأما كثرة غذائه، فلجهتين: إحداهما: أن الأعضاء تقبل <منه> مقدارا أكثر لكثرة جوهره ولبابه. والثانية: بعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها لعلوكته ومتانته. وأما بعد انحداره عن المعاء فلجهتين: إحداهما: أن الأعضاء لما كانت تقبل منه مقدارا أكثر، صار ما يبقى منه في المعاء لا يثقلها ويمنعها عن حمله وإمساكه. ولذلك لا ترسله عنها بسرعة. والثانية: لقلة ما فيه من القشر والنخالة، لم يكن معه من الجلاء ما يزعج المعاء ويهيجها إلى دفعه وإخراجه عنها.
ولروفس في هذا فصل قال فيه: إن الخبز كلما كان نقيا، كان غذاؤه أكثر وانحداره أعسر وانهضامه أبعد. وكلما كان نخاليا، كان غذاؤه أقل وانحداره أسرع وانهضامه أسهل. وما كان من الدقيق خفيفا رخوا قليل الجوهر واللباب، كثير القشر والنخالة، كان غذاؤه أقل وانحداره عن المعدة أقرب وانهضامه أسرع. فأما قلة غذائه، فلجهتين: إحداهما: قلة ما يصل إلى الأعضاء من جوهره لكثرة نخالته وقشوره. والثانية: قلة لبثه في الأعضاء لسرعة انحلاله منها لسخافته وخفته وقلة علوكته. وأمل سهولة انحداره من المعاء، فلأضداد الجهتين اللتين ذكرناهما. والنوع الأول: أعني أنه لما كانت الأعضاء لا تقبل من غذائه إلا اليسير، كان ما يجتمع منه في المعاء مقدارا أكثر. ولذلك يثقلها ويمنعها من حبسه وإمساكه، فترسله عنها بسرعة. ولما كان فيه من القشرة والنخالة مقدارا أكثر، كان فيه من قوة الجلاء ما