على ما ينبغي وكيف ينبغي وما احتملته الطباع، عضد الحرارة الغريزية وزاد في القوى الطبيعية زيادة محمودة، وأعان على الهضم وتلطيف الفضول والاخلاط، وغسل القنوات والمجاري والعروق وبخاصة عروق الكبد من الأثفال والأوساخ، وفتح سدد الكبد وأزال البخارات المظلمة المهيجة للهموم والأحزان عن القلب، وقوى الأعضاء، وأجرى عموم الدم في البدن كله، وصبغ به ظاهر البدن وباطنه، وأظهر في الوجه رونقا (١) وبهجة وأفاد اللون نضارة وحسنا. وذلك لتوليده الدم النير النقي الخالص المحمود.
وليس ما ذكرناه في فضيلة الشراب ومنافعه وآثاره المحمودة شيئا يخص الأبدان فقط، لكن قد تعم الأبدان والنفوس معا، من قبل انه وان كان شقيق الدم وحليف الطبيعة وأليفها وعشيق النفس وريحانتها وترياقها الأعظم، لأنا نجده دائما ينسيها الأحزان والهموم بما يفيدها من السرور والفرح والطرب ويبرز لها من المحاسن ويظهر لها من اللطائف التي كانت عنها مستورة، ويحدث لها نشاطا في الافعال والأعمال من غير أن يجد لذلك تعبا ولا نصبا ولا إعياء. ومن البين ان الحركة والحس بالتعب للنفس (٢) لا للطباع، من قبل ان الطبيعة انما لها إصلاح الأدوات التي بها الحس والحركة. وأما الحس والحركة فللنفس لا للطباع. وقد يستدل على ذلك من النبات والأشجار لأنا نجدها مطبوعة قائمة للنمو والحس الطبيعي للغذاء فقط اللذين هما للطبيعة دون النفس.
فقد بان مما قدمنا أنه موافق لكل الناس في كل الأسنان (٣) والأزمان والأبدان إذا أخذ بحسب القوة والعادة والاحتمال. وتدل على ذلك المشاهدة، لأنا نجد الأطفال والصبيان يحتملون منه مقدارا ما، والاحداث والشبان يحتملون منه مقدارا أكثر. وأما المشايخ فإنه وان كان أقوى الأسباب معونة على صحتهم وسلامة أبدانهم، فحاجتهم إلى ما يشجع ويعضد حرارتهم الغريزية ويقويها ويسخن رطوبة أبدانهم الفضلية <أكثر> فإن احتمالهم أقل من احتمال الشبان كثيرا، وذلك لضعف أدمغتهم ورخاوة عصبهم. فمن البين إذا ان فعل الشراب في الشيوخ مخالف (٤) لفعله في الشبان والأطفال، من قبل أن فعله في الشيوخ فعل الدواء في الداء <لمخالفته> لأمزجتهم (٥) ومباينته لطباعهم. وفعله في الشبان فعل الغذاء للمغتذي لملاءمته لأمزجتهم (٥) ومشاكلته لحرارتهم ومعونته لها وزيادته في جوهرها.
وأما الأطفال والصبيان فان فعله فيهم فعل الغذاء للمغتذي، والدواء في الداء معا. والسبب في ذلك أن حرارة الصبيان وان كانت أقوى بالجوهر، فإنها لم تبلغ نهايتها في القوة لافراط رطوبة أبدانهم لغلبة الدم على مزاجهم بالطبع. والشراب من جهة يعضد حرارتهم الغريزية <و> يقويها وينميها ويفعل فيها فعل الغذاء في المغتذي لمشاكلته لها بالطبع. ومن جهة أخرى ينشف رطوبة أبدانهم الفضلية رويدا رويدا ويفشها (6) لمخالفته لها. ففعله فعل الدواء في الداء.