القول في اللبن السليم والدلالة عليه أما اللبن السليم فهو الجاري على مجرى الطباع المشاكلة لمزاج حيوانه الذي هو منه بعد أن يكون الحيوان صحيح المزاج، حسن اللحم، معتدل الشحم، سليما من الهزال والاسقام وسائر الآفات.
وقد يستدل على اللبن الذي هو كذلك من بياض لونه واعتدال قوامه واجتماع أجزائه وذكاء رائحته وحلاوة طعمه وسلامة مزاجه من الحموضة والملوحة والمرارة. أريد ببياض (1) لونه أن يكون مع بياضه صافيا نقيا من الصفرة والخضرة والكمودة. وأريد باعتدال قوامه أن يكون متوسطا بين الرقة والثخن حتى إذا قطر منه على ظفر أو مرآة صقيلة، كان مجتمعا رجراجا غير جامد، ولا سائل ولا منقطع. وأريد باجتماع أجزائه أن تكون أجزاؤه كلها بقوام واحد ولا يكون بعضها رقيقا مائيا، وبعضها ثخينا جامدا.
وأريد بذكاء رائحته أن يكون معرى من الزفورة والنتن والكراهة أصلا. وإن كان من الواجب أن لا تكون له رائحة بينة، وإن كانت فيجب أن تكون يسيرة لذيذة ذكية، لان ما كان من الألبان كذلك، دل على تولده من دم صحيح سليم من الاعراض والشوائب، وأريد بأنه لا يولد إلا دما كذلك. وإذا كان كذلك، كان دليلا على أن منفعته في دفع ضرر المواد اللذاعة للأعصاب ليست باليسيرة. وهذا المعنى، وإن كان قد يعم الماء واللبن جميعا، فإن بينهما في ذلك فرقا بينا من قبل أن اللبن لعذوبته ولزوجته التي هي له من قبل جبنيته وسمنيته، يلحج (1) بالأعضاء ويدبق بها ويصير عليها (3) بمنزلة الغراء على الخشب، ويمنع المواد مماستها والاتصال بها، ويسكن اللذع العارض فيها من تبخير المواد الحادة اللذاعة، ويفعل في الأعضاء فعل بياض البيض والمرهم المعروف بالقيروطي المتخذ من الشمع الأبيض المغسول. ودهن الورد والماء فمعرى من ذلك لعدمه اللزوجة والعذوبة. وليس إنما يفوق اللبن الماء بهذه الحال فقط، لكنه قد يفوقه أيضا بما فيه من الجلاء والغسل والتنقية لما فيه من رطوبة المائية الحادة التي من شأنها غسل الفضول وجلائها وتنقيتها. ولكنه لما كان كل لبن من شأنه الاستحالة والتغير، وبخاصة في الهواء الحار، لم يؤمن عليه أن تنحل (4) حواسه وقواه التي وصفناه به، إذ لم يوجد عند خروجه من الضرع بحرارته التي يخرج بها من الحيوان.