وأما الشراب المعتدل القوام المتوسط بين الرقة والغلظ توسطا خفيفا، فإن مقداره من اللطافة والغلظ، وخفة الحركة وثقلها، وسرعة الانهضام وإبطائه، وكثرة الغذاء وقلته بحسب مقداره من الرقة والغلظ. ولذلك صار أصلحها انهضاما وأعدلها انفعالا وأحسنها جوهرا وأفضلها غذاء.
وما كان من الشراب منحرفا عن التوسط على الحقيقة إلى إحدى الحاشيتين دون الأخرى، كان أجدى من الحاشية التي مال إليها بقسطه وحسب انحرافه.
* * * وأما اختلاف الشراب بحسب روائحه فيكون على أربعة ضروب: لان منه ما يكون مرواحا ذكيا خمريا تفاحيا خفيف الحركة سريع الوصول إلى حاسة الشم التي في بطون الدماغ. ومنه ما لا رائحة له أصلا لغلظه وثقل حركته. ومنه ما رائحته متوسطة بين اللطافة والغلظ، والخفة والثقل، والسرعة والابطاء. ومنه ما رائحته بشعة كريهة مفسدة للحاسة التي في بطون الدماغ.
فما كان من الشراب مرواحا ذكيا عطريا خفيف الحركة سريع الوصول إلى حاسة الشم التي في بطون الدماغ، كان دليلا على لطافته وحسن جوهره واعتدال مزاجه واتقان فعل الطباع في تمام نضجه وكمال هضمه ونفي البخارات الغليظة عنه. وما كان من الخمور كذلك، كان أكثر إسخانا وأكثر توليدا للدم المعتدل المحمود الخالص النقي من الأوساخ والأثفال. ولذلك صار مشجعا للقلب، مقويا للذهن، مفرحا للنفس، مولدا (1) للسرور والطرب، مزيلا للهموم والأحزان، لأنه بتصفيته لدم القلب وتنقيته له من الأوساخ والأثفال، ينقي عن القلب البخارات الغليظة المظلمة المكدرة لنور الحرارة الغريزية المفسدة لضيائها. ولذلك صار موافقا لكل الأسنان (2) والمزاجات إذا اتخذ على ما ينبغي وكيف ينبغي وما احتملته الطباع.
وللفاضل أبقراط في هذا النوع من الشراب قول قال فيه: إن الشراب إذا كان مرواحا ذكيا عطريا، كان ألطف جوهرا وأقل حركة وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق وأكثر غذاء، لأنه دليل على أن الطباع قد أتقنت صنعته وأكملت هضمه ونفت عنه بخاره وغلظه، وجعلته لطيفا غواصا، خفيف الحركة، سريع النفوذ. ولذلك صار مدرا للبول، سريع الترقي إلى الرأس. وبهذا صار سكره أسرع وانحلال خماره أقرب.
وما كان من الخمور لا رائحة له أصلا، كان دليلا على غلظ بخاره وثقل حركته وبعد انهضامه وفساد جوهره. وما كان كذلك كان مذموم الغذاء، قليل المنفعة على سبيل الدواء، بل لا منفعة فيه أصلا لأنه غير منق للأوساخ والأثفال، ولا مصف للدم. وما كان هذه حاله، كان غير مشجع للقلب ولا مقو للذهن ولا مفرح للنفس ولا مولد للسرور والطرب، لأنه زائد في المواد الغليظة والبخارات المظلمة