على ترطيب الجسم وتليين صلابته، ورجع إلى التوسط والاعتدال.
فقد بان مما قدمنا إيضاحه: أن الصغير من الضأن مذموم التمليح. والفتي والهرم محمود للتمليح. والفتي والهرم من البقر والماعز مذمومان للتمليح. والصغير محمود للتمليح، من قبل أن الصغير من كل حيوان، بإضافته إلى الفتي والهرم من نوعه، أرخى لحما وألين جسما. فإذا كان من حيوان أرطب بالطبع مثل الضأن، وواقعه الملح، تحللت رطوبته بلطافة الملح، وضعفت قوة الملح عن تجفيفها لكثرتها فزادت في رخاوة الجسم وليانته وفساده، لأنه يكتسب من الملح حرافة وحدة، ويولد غذاء محرقا للدم بعيدا من التشبه بالأعضاء. وأما الهرم من كل حيوان، فإنه أجف وأقحل. فإذا كان من حيوان أرطب بالطبع، مثل الضأن، وواقعه الملح كان في رطوبته الطبيعية من الكثرة ما لا يفني الملح إلا بعضها، وتبقى منها بقية تفي (1) بترطيب جسم الحيوان وتعديل صلابته. وإذا كان من حيوان أيبس بالطبع، مثل البقر والماعز، وواقعه الملح، فنيت رطوبته بسرعة لقلتها، وازداد جسمه قحلا وجفافا، وخرج من حد ما يغتذى به. وأما الفتي من كل حيوان، فإنه أصلب لحما وأقل رطوبة من الصغير الكثير الرطوبة، كثيرا. فإذا كان من حيوان أرطب بالطبع، مثل الضأن، فإن الملح إذا واقعه، ضعفت قوته على تجفيف جل رطوبته الطبيعية لكثرتها، وسالت وذابت ورطبت صلابة الجسم وردته إلى الاعتدال. وإذا كان من حيوان أيبس بالطبع، مثل البقر والماعز، وواقعه الملح ولم يواف (2) فيه (3) رطوبة زائدة يفعل فيها، احتوى على الجسم وجففه وزاده صلابة على ما كان عليه، وخرج من حد الغذاء. وإن كان الفتي من البقر والماعز أفضل للتمليح من الهرم كثيرا، لأنه أعبل جسما وأرطب لحما بالإضافة إلى الهرم قليلا، من قبل أن صلابة جسم الفتي إنما هي (4) لشدة أعضائه وقوة حرارته الغريزية وزيادتها على حرارة الهرم. وصلابة جسم الهرم فإنما تكون لقحله وجفاف جسمه وقلة رطوبته الجوهرية وقربها من الفناء. ولذلك صار أذم كثيرا وأردأ.
فإن قال قائل: فما الذي صير الهرم من كل حيوان أقحل جسما وأقل رطوبة بالطبع، والشاهد ينبئ بخلاف ذلك؟ من قبل أنا نجد المشايخ الطاعنين في السن أرخى لحما وألين جلودا وأكثر رطوبة. ويستدل على ذلك من كثرة لعابهم ودموع أعينهم ورطوبة خياشيمهم وسيلانها دائما.
قلنا له: أما (5) ما ذكرته في المشايخ الطاعنين في السن، وإن كان ظاهرا مشاهدا، فإن ذلك ليس هو لهم من طبعهم. لكن لعرض فيهم مكتسب من ضعف حرارتهم الغريزية وعجزها عن هضم غذائهم وتحليل فضول أبدانهم وإخراجها من مسام البدن الدقاق. وبخاصة فضله الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء.
ولذلك غلبت الرطوبات على أبدانهم ولانت أعضاؤهم واسترخت جلودهم وكثر لعابهم ودموع أعينهم، وغزرت رطوبة خياشيمهم. والسبب في ذلك: أن حرارة أدمغتهم الغريزية لما ضعفت عن تلطيف ما يتبقى