وقد يستدل على ذلك من الشاهد، لان العامة دون الخاصة، يعلمون أن النار حارة لظهور حرارتها للحس، ولا يعلمون أنها يابسة لخفاء يبسها عنهم. فالحرارة فيها أقوى فعلا وأسبق تأثيرا، لأنا نجدها إذا قابلت الأشياء ولاقتها، أسخنتها بدءا وأحمتها وأذابت رطوباتها وحللتها، ثم تفعل بعد ذلك فيها يبسها وتجففها. فالحرارة إذا في النار أسبق وأقوى فعلا من اليبوسة. وعلى هذا المثال، نجد فعل الملح في الأشياء أيضا، لأنا نجده يحلل ويذيب ما كان فيه من رطوبة سيالة، ويكثف ويصلب ما كان قليل الرطوبة. فمن البين إذا، أن الملح إذا وافى جرما رخوا ألفى فيه رطوبة غزيرة رقيقة سيالة، حلل تلك الرطوبة وأذابها وزاد في رخاوة الجسم وليانته، وكلما كانت الرطوبة أرق، كان أكثر لرخاوة الجسم وليانته. وإذا وافى جرما قليل الفضول ليس فيه رطوبة غريزية فيفعل فيها، احتوى على ما فيه من يسير الرطوبة، وجففها بسرعة وزاد في صلابة الجسم وصيره قحلا شبيها بالجلود المدبوغة، وأخرجه من حد ما يغتذي به. وإذا وافى جرما صلبا، إلا أن فيه رطوبة غريزية، أذاب تلك الرطوبة وحللها وسيلها وأكسب الجرم ليانة واعتدالا. وإذا وافى جرما رخوا قليل الرطوبة، حلل ما فيه من الرطوبة اليسيرة وجففها وأكسب الجرم صلابة واعتدالا.
فقد بان واتضح أن كل حيوان تجتمع فيه الحاشيتان المتلاومتان (1)، أعني بالحاشيتين المتلاومتين إما رخاوة الجسم وكثرة الرطوبة، مثل الصغير من الضأن، وإما صلابة الجسم وكثرة اليبوسة، مثل الفتي من البقر، فإنه مذموم للتمليح. وكل جسم تجتمع فيه الحاشيتان المتضادتان: إما رخاوة الجسم وقلة الرطوبة، مثل الرضع من الماعز، وإما صلابة الجسم وكثرة الرطوبة، مثل الفتي من الضأن، فإنه محمود للتمليح، لان الجسم إذا كان لينا رخوا غزير الرطوبة وواقعه الملح، حلل رطوبته وسيلها. وإذا تحللت الرطوبة وسالت وتهافتت، ازداد الجسم رخاوة وليانة، وصار مذموم الغذاء، إلا أنه قد صار في طبيعة البلغم المالح المحرق لاكتسابه البورقية من الملح. ولذلك صار الغذاء المتولد عنه حارا محرقا للدم. ولهذه الجهة لحقه الدم من جهتين: إحداهما (2): أنه بحدته وحرافته صار محرقا (3) للدم ومشيطا (3) له. والثانية: أنه لرخاوة جسمه وليانته، صار عسير الانعقاد، بعيد التشبه بالأعضاء وبخاصة متى كان (4) الغالب على رطوبته الرقة والسيلان.
وإذا اجتمع في الجسم الصلابة وقلة الرطوبة، صار إذا واقعه الملح، ولم يجد فيه رطوبة زائدة يفعل فيها، رجع إلى رطوبته الجوهرية واحتوى عليها وأفناها، وزاد جسمه صلابة وصيره قحلا جافا خارجا عن حد ما يغتذى به. وأما الجسم الذي قد اجتمع فيه مع الرخاوة، قلة الرطوبة، فإن الملح إذا واقعه ولم يجد فيه رطوبة غزيرة يفعل فيها، رجع إلى ما فيه من يسير الرطوبة وجفف أكثرها، وأكسب الجسم صلابة واعتدالا.
وكذلك الجسم الذي قد اجتمعت فيه صلابة الجسم وكثرة الرطوبة، فإن الملح إذا واقعه ووافى رطوبته غزيرة، حللها وأذابها وسيلها وجفف ما أمكنه منها. فإذا عجز عن تحفيف الكل لكثرته عليه، بقيت منه بقية أعانت