لا تهب عليه الرياح أصلا، لان كثرة الرياح زائدة في شدة حركة الماء وكثرة أمواجه. فإن كانت المياه، مع ذلك، في مواضع مستقبلة الشمال، كان ذلك زائدا في فضلها، لان ريح الشمال يابسة بالطبع، وما تحمله معها من الأشياء، فذكية الرائحة لذيذة. وذكاؤها مزيل عن السمك أكثر سهوكته وزهومته. وكل سمك يأوي مياه مستورة من مهب الرياح، فهو أردأ وأذم لان قلة الرياح تمنع حركة الماء وتديم سكونه وركودته.
وكذلك كل سمك يأوي مياه عليها ريح الجنوب، فهو مذموم لان الجنوب، على مذهب المتطببين، رطبة بالطبع، وما تحمله معها أيضا من الأشياء، فكريهة بشعة. وكراهتها تفيد السمك زفورة وسهوكة.
وأما اختلاف السمك من رياضته، فإن ما كان منه دائم الحركة كثير التعب، كان أفضل مما كان بخلاف ذلك، لان زيادة الحركة ودوام الرياضة، تخلخل جسمه وترخي لحمه وتلطفه وتذهب بلزوجته وغلظه.
وأما اختلاف السمك من قبل مرعاه وما يغتذي به، فإن ما كان منه يرتعي حشيشا طريا وأصولا رطبة محمودة، أو حيوانا جثته نقية، كان أفضل لان غذاءه يكون أخف ولحمه ألذ وبخاصة متى كان يأوي مياه صافية نقية سليمة من الوسخ والحمأة. وما كان منه يرتعي حشيشا كريها وأصولا مذمومة أو حبوبا عتيقة فاسدة، كان رديئا مذموما. فإن لحمه يكون أغلظ وسهوكته وزهومته أكثر، ولا سيما متى كان يأوي مياه كدرة وسخة كثيرة الطين والحمأة.
وأما اختلاف السمك من قبل سنه ومقدار مدته، فإن ما كان منه متوسطا بين الصغير والكبير، كان أفضل وأحمد من الصغير والكبير جميعا، لان الصغير وإن كان محمودا من جهة، فهو مذموم من جهة أخرى. وأما الكبير، فإنه مذموم من الجهة التي يحمد منها الصغير، ومحمود من الجهة التي يذم منها الصغير. وذلك أن الصغير (1) يحمد لقلة غلظه ولزوجته وسرعة انهضامه وبعد إضراره بالمعدة، فإنه يذم لسرعة استحالته وانتقاله إلى العفونة والفساد. وأما الكبير، فإنه وإن كان يذم لغلظه وكثرة لزوجته وسرعة إضراره بالمعدة، فإنه يحمد لبعد استحالته وانقلابه إلى الفساد بسرعة. ولذلك صار المتوسط السن من السمك أفضل كثيرا لبعده من الحاشيتين جميعا، وأخذه (2) من كل واحد منهما الأفضل، لأنه يأخذ من الصغير بعض ليانته ورخاوة لحمه فيلطف لذلك، ويسهل انهضامه ويقل إضراره بالمعدة. ويأخذ من الكبير بعض جفافه وغلظه، فتبعد استحالته إلى الفساد من قرب، إلا أنه يكون على ثلاثة ضروب: لان منه ما يكون من سمك هو في جنسه أصلب لحما. ومنه ما يكون من سمك هو في جنسه أرخى لحما.
ومنه ما يكون من سمك هو في جنسه متوسطا بين الرخاوة والصلابة.