فقليل ما ينتقل إلى الماء المالح لزعوقته (1) وبشاعته وقلة استلذاذه له. ولذلك صار لا ينتقل إليه منه إلا ما كان قريبا من فم البحر، لأنه يمتد مع الماء المنصب إلى البحر من الأنهار لشدة جريه ويدخل إلى البحر ضرورة.
والذي يمتاز به السمك البحري من النهري الزفورة والشوك، من قبل أن زفورة السمك البحري أنقص، وشوكه أقل وأغلظ، وزفورة السمك النهري أكثر وشوكه أرق وأغزر. فمتى وجدنا في البحر سمكا زفورته أكثر وشوكه أرق وأغزر، علمنا أنه نهري انتقل إلى البحر، ومتى وجدنا في النهري سمكا زفورته أنقص وشوكه أقل وأغلظ، علمنا أنه بحري انتقل إلى النهري. والفرق بين النوعين في طبائعهما ومزاجاتهما: أن البحري بإضافته إلى النهري، أسخن وأقل رطوبة ولزوجة، لان ملوحة الماء الذي يأوي فيه تسخنه وتقطع رطوبته وغلظه. ولذلك قل شحمه ونقصت عذوبته، وصار ما ينال البدن من غذائه أقل، وإن كان أحمد وألذ طعما وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق وأقرب من الانقلاب إلى الدم وأسهل انحلالا من الأعضاء، إلا أنه بطئ الانحدار عن المعدة والمعاء.
والسبب في لذاذة طعمه، قلة ما فيه من الشحم والعذوبة والسهوكة (2). والسبب في قلة غذائه سرعة انحلاله من الأعضاء وخلائها منه بسرعة وفقرها إلى غذاء غيره من قرب. والسبب في بعد انحداره عن المعدة والمعاء، يكون من جهتين: إحداهما: أن ليس فيه من الرطوبة واللزوجة ما يزلقه ويحدره بسرعة. والثانية: أن ليس فيه من الغلظ ما يمنع نفوذه في العروق بسهولة فيكثر في المعدة ويثقلها ويهيجها إلى دفعه بسرعة.
وأما السمك النهري، فمخالف للسمك البحري في فعله وانفعاله كثيرا لأنه في طبيعته ومزاجه بإضافته إلى السمك البحري، أبرد وأرطب، لان ماء الأنهار بارد رطب (3) ويستدل على ذلك من تفاهته.
ولذلك صار السمك المتولد فيه أكثر عذوبة وغلظا (4)، ذلك لكثرة شحمه ولزوجته. ولهذه الجهة صار ما ينال البدن من غذائه أكثر، إلا أنه أردأ وأعظم انهضاما وأقل لذاذة ونفوذا في العروق وأبعد من الانحلال من الأعضاء، وإن كان أسرع انحدارا عن المعدة والمعاء. والسبب في فساد غذائه، كثرة لزوجته وغلظه وعسر انهضامه. والسبب في قلة لذاذته، سهوكته وكثرة شحمه وظهور عذوبته. والسبب في كثرة غذائه، بعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها وغناها عن طلب غذاء غيره مستأنف من قرب، لان ذلك يقوم لها مقام الكثير من الغذاء. وأما سرعة انحداره عن المعدة والمعاء، فلجهتين: إحداهما: أنه لكثرة رطوبته ولزوجته، يلين خمل المعدة ويزلق وينحدر بسرعة. والثانية: أنه لغلظه وعسر نفوذه في العروق، يجتمع منه في المعاء ما يثقلها ويهيج القوة إلى إخراجه بسرعة.