الذي، وإن كان متحركا، فإنما حركته لغيره لا لذاته مثل لحم الصدر والرقبة والصلب.
فما كان دائم الحركة لذاته وعينه، كان ألطف غذاء وأعذب وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق، وأقرب إلى الانقلاب إلى الدم مما شاكله في مزاجه وخالفه في دوام الحركة، من قبل أن الحركة من شأنها أن تقوي الحرارة وترق الأثفال وتلطفها وتنقي أكثرها من البدن.
وما كان من الأعضاء دائم السكون، كان أغلظ غذاء وأعسر انهضاما وأبعد من النفوذ في العروق وأبطأ في الانقلاب إلى الدم مما وافقه في مزاجه وتركيبه، وخالفه في سكونه وقلة حركته، من قبل أن السكون يفعل ضد الحركة دائما، لأنه يجمد الحرارة الغريزية ويرطب الأبدان ويغلظ الأثفال ويمنع من تحليلها. ولذلك صار البطن وما يليه أغلظ لحما وأكثر شحما وأقل عذوبة من لحم الصلب والرقبة والصدر، من قبل أن حركة الصلب والرقبة ترض ما يجاورها من اللحم، وترق أثفاله، وتنقي فضوله، وتخرجه من مسام البدن دائما. ولذلك قل ما على هذه الأعضاء من الشحم وتجرد لحمها وعذب وجاد هضمه. وأما البطن، فلدوام سكونه، انحصرت الرطوبات في باطنه، وغلظت وانطبخت طبخا ثانيا وصارت شحما. ولذلك كثر شحمه وقلت عذوبة (1) لحمه وزالت لذاذته وعسر انهضامه.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن كل لحم لازوق بعظم فهو أمرأ وأعذب مما بعد من العظام، لان العظام ترض ما جاورها من اللحم وتخلخل جسمه وتنفي فضوله، وتكسبه عذوبة ولذاذة بإتعابها له دائما.
وأما اختلاف غذاء الأعضاء بحسب مواضعها من البدن، فإن ذلك ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان من الأعضاء ما يلي ظاهر البدن وسطحه، ومنها ما يلي باطن البدن وعمقه. وما يلي سطح البدن فينقسم قسمة ثانية على ضربين: لان منها ما هو مجاور للعظم مثل عظم الصلب والرقبة، ومنها غير مجاور لعظم مثل السرة وسائر ظاهر البطن (2). فأما المجاور للعظم فينقسم خمسة أقسام: لان منها ما يلي الصدر ومقدم ما يلي مؤخر البدن وعجزه مثل الأعضاء المتوسطة بين أسفل الكبد والذنب.
ومنها (3) المتوسطة بين هاتين المرتبتين. ومنها ما يلي الجانب الأيسر مثل الأعضاء المجاورة للطحال.
ومنها ما يلي الجانب الأيمن مثل الأعضاء المجاورة للكبد والمرار (4).
فما كان منها يلي ظهر البدن وسطحه، كان أفضل مما يلي باطن البدن وعمقه، لان ما يلي ظاهر البدن لقربه من مسام البدن، تتحلل فضوله دائما وتخرج بالبخارات والعرق، فتقل فضوله ويعذب لحمه ويلين. وما يلي باطن البدن، فلبعده من مسام البدن ومنافسه، تحتقن البخارات فيه ويكثر فضوله ورطوباته ويغلظ. ولذلك ما يلي الجانب الأيمن أفضل مما يلي الجانب الأيسر، لان ما يلي الجانب