من اللحم والشحم. ولهذا ما ظن قوم أن الدماغ بارد (1) بالطبع، فأقاموه في طبيعته ومزاجه مقام البلغم الغليظ اللزج. وصيروا دليلهم على ذلك من جهتين: إحداهما: من فعله، والأخرى: من انفعاله. فإنهم قالوا: لما وجدنا الدماغ بطيئا في المعدة، عسير الانهضام، مفسدا (2) لشهوة الغذاء، علمنا أن البرد أغلب على مزاجه، واستشهدوا على ذلك بكلام لجالينوس ظنوا أنه مطابق لقولهم موافق لدعواتهم، لان جالينوس قال: إذا أردت أن تهيج القئ، فأطعم الدماغ بعد الطعام بوقت كثير، ولذلك وجب أن لا يستعمله من كانت شهوته ناقصة مقصرة.
وأما ما استدلوا به على برودة الدماغ من فعله، فإنهم قالوا: لما وجدنا الدماغ ينبوع الحس والحركة، اتضح أنه في طبيعته بارد رطب، لأنه لو كان حارا على دوام حركته لالتهب واحترق وفسدت جوهريته، وهلك الحيوان من قرب.
فأفسدنا عليهم بهذه الدعاوي من جهتين ببرهانين: أحدهما: صناعية، والآخر (3) قياسية.
فأما من الصناعية، فإنا قلنا لهم: إن الدماغ، وإن كان رطبا في المعدة وبعيد الانهضام مفسدا لشهوة الطعام، فإن ذلك ليس من برده، لكن من رطوبته ولزوجته وتوسطه بين طبيعة الشحم والدسم. ولو وجب في الدماغ أن يكون باردا لبعد انهضامه وإبطائه في المعدة وإفساده لشهوة الغذاء، لوجب في الشحم أيضا أضعاف ذلك ضرورة. إذ كان أخص ببعد الانهضام والابطاء في المعدة وإفساد الشهوة من الدماغ كثيرا لأسباب قد قدمنا ذكرها مرارا.
وأما ما استشهدوا به من قول جالينوس حيث يقول أنه متى أردت أن تهيج القئ، فأطعم الدماغ بعد الطعام بوقت كثير، فإنهم لو فحصوا عن هذا القول فحصا شافيا، لعلموا أن جالينوس لم يلزم الدماغ هذه الخاصة لبرده، لكن لرطوبته ولزوجته، إذ الرطوبة أخص بما ذكرنا من أمر البرودة، لان من شأن البرودة الجمع والحصر والتقوية والتنبيه لشهوة الطعام، لمجانستها للشهوة بالطبع. ولذلك صار الماء زائدا في شهوة الطعام والحامض ناقصا منها. وأما الرطوبة واللزوجة فمن شأنهما أن تختلطا (4) بالغذاء وتحدثا (5) فيه غلظا وتمنعا من هضمه. فإن اتفق فيها، مع ذلك، أدنى حرارة ودهنية، عاما وعوما الطعام معهما وهيجاه إلى الخروج من فوق. وإن كان معهما أدنى برودة، ثقل جرمهما وهبط سفلا وأزلق الطعام وهيجه إلى الخروج من أسفل بسرعة. وقد يستدل على ذلك من الماء والهواء لان الماء لما كان مع رطوبته باردا، ثقل وهبط سفلا. والهواء لما كان مع رطوبته حارا، خف وعام وترقى صعدا.
وأما ما رددنا به عليهم من القياس، فمن قول الفيلسوف (6)، لان الفيلسوف قال في كتابه المعروف بكتاب (طبائع الحيوان) قولا هذا معناه: إن الدماغ لما كان ينبوع الحس والحركة، والحس