الجملة قد تغير واستحال استحالة ما، لبعده من الحرارة الغريزية وفعل الحرارة العرضية فيه. والدليل على ذلك أنا نجد اللحم إذا لبث زمانا كثيرا، ظهرت استحالته للحس، ونتنت رائحته. ومن البين أن الزمان الكثير إذا فعل فيه من الاستحالة والتغيير مثل هذا الفعل، فإن الزمان القليل يفعل فيه بقسطه.
ولذلك، صار غذاء ما كانت هذه سبيله من اللحمان أذم وأردأ مما كان طريا. وأما النوع الأول، أعني ما كان طريا وقد أنضج بنار جمر حتى لان لحمه وترطب، فإن غذاءه (1) أحمد وأفضل وأكثر تقوية للأعضاء وألبث فيها وأبعد انحلالا منها. ذلك لطراء دمه وذكائه وقربه من الحرارة الغريزية.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الحيوان والنبات أرطب مما ينبغي، أو لم يبلغ ما يحتاج إليه من النضج، فإنه إذا بقي زمانا لان منه ما كان صلبا، ويبس ما كان منه رطبا، ونضج ما كان منه غير نضيج، وصارت كلها أسرع انهضاما وخروجا. وإذا كانت لينة أو معتدلة في الرطوبة أو جافة أو نضيجة، فإن ما كان منها لينا يصلب، وما كان منها معتدلا في الرطوبة أو جافا، أفرط عليها اليبس وصارت كلها أسرع انهضاما وخروجا. وما كان منها نضيجا، فإنه يعفن.
فإن عارضنا معترض وقال: ما بال جالينوس حكم على اللحم الصلب، أنه إذا قام زمانا تحللت رطوبته بحرارة الهواء وذابت واكتسبت ليانة ورخاوة، ولم لم يحكم بمثل ذلك على اللحم الرخو أيضا؟
ويقول: إن اللحم اللين إذا قام زمانا تحللت منه رطوبة بحرارة الهواء وذابت وزادته رخاوة على رخاوته.
قلنا له: إن جالينوس إنما تكلم في هذا الفصل بكلام عامي شامل للحيوان والنبات جميعا.
فتكلم بدءا في اللحمان وقال: إن ما كان من اللحمان صلبا فإنه، إذا بقى زمانا، تحللت من بدنه رطوبة بحرارة الهواء وذابت، ولان لحمه واسترخى. ثم تكلم بعد ذلك في النبات فقال: إن ما كان من الثمر رخوا لينا سخيفا منحلا متخلخلا، فإنه إذا بقي زمانا جف واكتنز وصلب وصار معتدلا. وما كان منه علكا صلبا جافا مكتنزا، فإنه، إذا بقي زمانا، زالت علوكته واكتنازه وجفافه، ولان واعتدل. والدليل على ذلك أنا نجده، إذا طال به الزمان وجاوز المقدار، فنيت أكثر رطوبته الجوهرية واستأس (2) رويدا رويدا حتى يصير ترابيا.
فقد بان واتضح أنه لا يجب أن يؤكل من اللحمان ما كان في طبيعته صلبا يابسا مثل لحم الفتي من الشفنين والفتي من الديوك والفواخت والورشان والدراج والحجل والطواويس والطيهوج والقطا وجميع ما يأوي الآجام (3) إلا بعد ذبحه بيوم ليلين لحمه ويسترخي فيجود هضمه. وأحمد ما في هذا النوع من الطير القطا، لأنه أقلها يبسا وجفافا وأرخاها لحما وأعدلها غذاء.
وأما ما كان من الطير الغالب على مزاجه الرطوبة مثل البط وبعدها فراخ الحمام والنعام، فإن