كان مزاجه باردا رطبا إما من البنية، وإما لحال عرضت له، أو من كان من أهل الدعة والسكون أو من قد اجتمع في بدنه أخلاط كثيرة غليظة نيئة، وبخاصة في زمان الشتاء والهواء البارد والبلد الكذلك، كانت منفعته له بينة ظاهرة من قرب لأنه يلطف الأثفال ويقطع الرطوبات وينقي العروق والقنوات من.. (1) ويستفرغها بالبول والعرق. ولذلك وجب ألا يمتنع منها من كان محتاجا إلى التدبير الملطف. ولجالينوس في الأشربة فصل قال فيه: من أوفق الأشربة لمن كان في عروقه أخلاط غليظة حارة الشراب الأبيض اللطيف أو الشراب الأبيض الخمري، وبعدهما الشراب المورد والشراب الخوصي المعتدل الزمان. فإن كانت الأخلاط مع غلظها باردة فأوفق الأشربة لصاحبها الشراب الأصفر الحاد العتيق. قال إسحاق:
والأشقر الكذلك. وإن كانت الأخلاط، مع غلظها، لا حارة ولا باردة فأوفق الأشربة لصاحبها ما لم يكن فيه واحدة من هاتين الخلتين، أعني ما لم يكن أبيض (2) رقيقا ولا أصفر (2) عتيقا بل متوسطا (3) بين ذلك مثل الشراب الأصفر المعتدل والأشقر الذي هو كذلك والشراب المورد العتيق الخوصي الكذلك. ومن فضيلة الشراب ومنافعه: أنه إذا أخذت منه باقتصاد وتوسط واعتدال، زاد في الدم المحمود لمشاكلته له في طبيعته ولونه وقوامه، وطيب طعم المأكل والمشرب، ونبه الشهوة للغذاء والباه جميعا بتقويته الروح الحيواني والروح النفساني والقوى الطبيعية، لأنه يقوي المعدة على جذب الغذاء وإمساكه وهضمه ودبغه، بعطريته، وتنقيته الرطوبات الفاسدة المذمومة بحدته ولطافته، ويسوي تأليف البدن وتقويته، وينسي الأحزان والهموم ويدفع الكريه المذموم من أعراض الدنيا ويجلب الجيد المألوف من محبوبها، ويجعل الجلف (4) الجافي للوفاء عطوفا، والقاسي الغليظ لينا شفيقا ويظهر من محاسن النفس أشرفها وأفضلها مثل الكرم والجود والسماحة والسخاء والتصافي والمحابة ويعين الهمة والشجاعة والحلم والبلاغة، ويجعل الفدم (5) الصموت محجاجا (6)، والبليد الثقيل جريئا خفيفا. ويدل على ذلك ويشهد به قول قاله روفس، حكاه عن اليونانيين والفرس، زعم فيه أن الفرس كانوا يستعملون الشراب دائما في وقت المشاورة والمفاوضة في الرأي والتدبير، فيجدونه مذكيا لعقولهم ومقويا لأذهانهم ومسنحا (7) لهم المحمود من الرأي والصواب من التدبير.
فأما اليونانيون (8) فزعم أنهم كانوا يستعملونه عند إنشادهم الاشعار واستعمالهم الملاهي وضربهم بالعيدان فيجدونه يحد أذهانهم ويذكي عقولهم ويخرج ما في قلوبهم ورؤيتهم من القوة إلى الفعل.
ولذلك صار من الأفضل أن يحذر منه من (9) تغلب على العقل ومسكنه ويسلبه لبه ويخرج إلى السكر،