يجاوز الحد المعتدل، لان ما كان من البصاق كذلك، كان محتاجا في تسهيل خروجه بالنفث إلى ما يسخن ويرطب ويلين تليينا معتدلا، ثم إلى ما يلطف ويحلل ويجلو وينقي وإلا لم يؤمن على البصاق أن يمانع القوة الدافعة بيبسه ولزوجته ولا ينقاد إلى فعلها بسرعة ويهيج سعالا عنيفا شديدا ويفتق عروق الصدر ويشقها. ولذلك صار الشراب الأحمر الحلو إذا خلط ببعض الأدوية المنقية المطلقة، كان نافعا من هذه العلل.
وأما الشراب المورد من العنب الأحمر، والخوصي من العنب الأصفر، فمتوسط (١) بين الشراب الأشقر والأصفر، وبين الشراب الأبيض الرقيق. ولذلك صار، بإضافته إلى الشراب الأبيض الرقيق، أكثر غذاء وأسرع انقلابا إلى الدم، وإن كان المورد أخص بالانقلاب إلى الدم من الخوصي لما فيه من بقايا الخمرة. ولما كان هذان النوعان من الشراب لا يكونان نيرين أحمرين عطريين، صارا سريعي الترقي إلى الرأس، لأنهما (٢) غير مضرين بحجب الدماغ للطافتهما وسرعة انحلالهما وقربهما من لطافة الشراب الأبيض الرقيق. ولذلك صار سكرهما سريعا وانحلال خمارهما قريبا.
وأما الشرابان (٣) الأصفر والأشقر فلما كان الأغلب على مزاجهما، إذا كانا حديثين، الحرارة في الدرجة الثانية، وإذا كانا عتيقين كان الأغلب عليهما الحرارة في الدرجة الثالثة، وعلى طعمهما الصلابة والشدة، وعلى قوامهما اللطافة وخفة الحركة، وعلى رائحتهما الذكاء والعطرية والخمرية، صارا إذا ما شرب (٤) أحدهما، يترقى إلى الرأس بسرعة ويملأ الدماغ بخارات حارة لذاعة، ويسكن من قرب ويضر بحجب الدماغ وسائر العصب. ولذلك صارا إذا تناول أحدهما من كان مزاجه ممرورا إما بالطبع والبنية، وإما لحال عرضت له، ومن كان كثير الهم والتعب أو يقلل من غذائه، لم تكن مضرته له باليسيرة، لأنه يسخن من كانت هذه حاله ويحدث به حمى ويهيج به صداعا لاضراره بالدماغ وسائر العصب، وبخاصة إذا كان الزمان صيفا والهواء حارا والبلدة أيضا كذلك. وإن كان ليس إنما يفعل هذا الفعل <ب> من كانت هذه حاله من الممرورين والمغمومين والكثيري (5) التعب والقليلي (6) الغذاء، لأنه يولد فيهم دما رديئا مذموما، لكن لأنه يسخنهم ويجففهم تجفيفا قويا وهم إلى التبريد والترطيب أحوج، وإن كان ربما نفع هذان النوعان من الشراب الدماغ وسكنا الصداع العارض من انصباب الأخلاط الغليظة إلى المعدة، لأنهما يلطفان (7) تلك الأخلاط ويقطعانها (7) ويحدرانها (7) بسرعة. ولذلك صار متى تناول أحدهما من