وأما الأدوات (1) التي تستعمل فيها النار فتكون على ثلاثة ضروب: أحدها: التنور، والثاني:
الفرن، والثالث: الطابق (2). فأما نار التنور فتكون على ضربين: لان منها ما يفعل بالمباشرة، ومنها ما يفعل بغير مباشرة. فأما الذي يفعل بغير مباشرة، فمثل نار التنور الذي يوقد وقودا جيدا، وتترك فيه قدور فخار لطاف حتى تحمى ثم تشال من التنور ويجعل فيها الخبز وترد إلى التنور حتى ينضج الخبز حسنا.
وما كان كذلك، كان أفضل الخبز وأحمده وأعدله غذاء وأسرعه انهضاما، لان النار قد نفذت في جميع أجزائه نفوذا متساويا، وفعلت فيها فعلا معتدلا محكما ولطفت لزوجة الخبز وغلظه، لأنها لم تباشره فيفعل في ظاهره أكثر من فعلها في باطنه. لكنها فعلت من بعد قليلا قليلا وأنضجته نضجا كاملا. وإن كان العجين مع ذلك معتدل الخمير والملح محكم الصنعة في عجنه وعركه وتخميره، وكان مع ذلك لينا رخوا وخبز على مثال ما وصفنا في قدور في جوف تنور، كان ألطف وأفضل لغذائه وأسرع لانهضامه، لان النار تلطف اللبث في إنضاجه للينه ورخاوته وزيادة رطوبته، فتبالغ في تلطيف غلظه ولزوجته وتخليل رياحه ونفحه.
وإن جعل عوض الماء الذي يعجن به العجين، ماء قد مرس فيه دقيق وصفي، كان أكثره لغذائه وأسرع لنفوذه في العروق. وأما كثرة غذائه فلما يفيده من الدقيق ويزيد فيه من جوهر الحنطة الذي انحل من الدقيق في الماء الذي مرس فيه، وذلك أن الذي يخالطه الماء من الدقيق إذا مرس فيه، أفضل ما في الدقيق وأكثره جوهرا وغذاء. وأما نفوذه في العروق، فلما يكتسب من ماء الدقيق من العذوبة واللذاذة وكثرة الجلي. وذلك أن الذي يخالط الماء من الدقيق أيضا أعذب ما فيه وأكثره لذاذة وجلاء. فلعذوبته ولذاذته تقبله الأعضاء وتجذبه إليها بسرعة، ولجلائه يسرع نفوذه في العروق.
وإن جعل فيه عوض ماء الدقيق ماء نخال ممروس في ماء حار مصفى، أفاد ذلك جلاء وتنقية لما في الصدر والرئة من الرطوبة اللزجة، ونقي المعدة والمعاء، وأعان على سرعة الانحدار وتليين البطن.
وذلك لما في النخال من قوة الجلاء لزيادة سخونته.
وأما ما تفعل من النيران من المباشرة، فنار التنور الذي يلزق الخبز في باطنه. فإن النار تباشر الخبز وتفعل في ظاهره من قرب، وتجففه قبل أن تتمكن من باطنه، وتلطف لزوجته وغلظه. ولذلك صار هذا النوع الأول في اللطافة والغذاء وسرعة الانهضام، وذلك أن بينهما من المخالفة ما ليس باليسير لجهتين: إحداهما: أن النار لما كانت تفعل في هذا النوع بالمباشرة، لم يطل اللبث في فعلها فيه، فيمكن أن تتمكن من تلطيف غلظه ولزوجته وتخليل رياحه ونفخه كتمكنها في النوع الأول من قرب بسرعة، وفعلها في النوع الأول من بعد بتمهل. والجهة الثانية: أنه لما كانت النار تباشر العجين وتفعل فيه من قرب، صار فعلها في ظاهره أكثر من فعلها في باطنه، لان مباشرتها لظاهره أسبق، وفعلها فيه