المشاكلة للحنطة المسلوقة في اللزوجة والغلظ قليلا، صار انهضامه أعسر من انهضام الخبز المحكم الصنعة وانحداره أبطأ وانحلاله من الأعضاء أبعد ولبثه فيها أطول. ولذلك صار أكثر موافقة لأصحاب الرياضة والتعب لقوة هضمهم وزيادة حرارتهم. وأما أصحاب الدعة والسكون من المتملكين ومن قد ضعف هضمه من المشايخ والناقهين من الأمراض، فإنه غير موافق لهم، من قبل أن حرارة من هذه حاله، تضعف عن هضم ما غلظ من الطعام وبعد انهضامه. وإن استعمل أحد ممن هذه حاله شيئا من الخبز القليل الخمير والتخمير وأدمن عليه، لم يأمن أن يتولد في بدنه مع طول الأيام، خلط ني قريب من البلغم اللزج المعروف بالخام.
وما كان من الخبز قد أكثر فيه من الخمير والملح ما جاوز المقدار، فإنه لا يغذو البدن ولا يقوته أصلا، من قبل أن قوة الملح إذا أفرطت، جففت رطوبة الغذاء وصيرته قحلا. ومن البين أن الهضم لا يتم إلا باجتماع الحرارة والرطوبة على ما بينا مرارا.
ولجالينوس في هذا قول قال فيه: ومن الناس من يجعل في الخبز من الملح والخمير أكثر مما ينبغي، هربا من سدة يحدثها به في المجاري والمنافذ، لان الملح من شأنه أن يلطف الغليظ ويفيد الخبز يبوسة وجفافا. والخمير يفيد الخبز انتفاخا وخفة ويذهب بثقله ورزانته. والدليل على انتفاخه (1) أن الانسان إذا أكثر ماءه في وقت عجنه، ثم أدخله النار، ظهرت فيه نفاخات كثيرة. والدليل على خفته أن الانسان إذا وزنه بعد خبزه له وجده أخف من الخبز الذي هو أقل خميرا منه. وكذلك صار قليل الغذاء جدا.
وأما ما كان من الخبز لم يجعل فيه خمير أصلا، ولم يوفى حقه من الملح، ولم تحكم صنعته في تخميره وإنضاجه، فإنه أقل أنواع الخبز غذاء وأسرعها انهضاما وأخصها بتوليد السدد والرياح. وذلك لان فيه من الغلظ واللزوجة ما ليس باليسير. ولذلك صار غذاؤه قريبا من غذاء الحنطة الطرية الرطبة اللينة التي لم تجف على نباتها، وإن كان ما سخن من الحنطة الرطبة قليلا، لاكتسابه الحرارة من النار، إلا أنه لقربه من الحنطة الرطبة، صار مولدا للخلط الغليظ البارد المعروف بالخام، وإن كان البلغم أيضا باردا نيا، فإن بينهما فرقانا من قبل أن البلغم ليس بغليظ لان فيه رطوبة طبيعية تشمله وترخيه.
وأما الخلط المعروف بالخام، فإن غلظه شبيه بغلظ الرسوب الذي يرسب في البول الشبيه بالمدة (2)، إلا أن بينه وبين المدة فرقانا (3) أيضا، لان المدة أكثر لزوجة وأنتن رائحة. فأما ما قدمنا ذكره في الفطير الخالص، صار غير موافق لاحد من الناس، وإن كان كثير (4) من الحصادين والفلاحين قد