أشد. وإن لم يمكن ذلك بالكثير لضعف نار التنور ولبثها. ولذلك صار غذاء القشر من هذا الخبز مخالفا لغذاء اللب، وإن كان ذلك لا يظهر حسا لعلة ما بينهما من المباعدة.
وأما نار الفرن، فتكون أيضا على ضربين: لان منها ما يكون من ظاهره الفرني، ومنها ما يكون من باطنه. فأما ما يكون منها ظاهر الفرن، فمثل نار الأفران التي بمصر المعروفة بالطابون، فإن الخبز يكون من باطن الطابون، والنار من ظاهره يطيف بها ويحتوي عليها. وما كان من النار كذلك، كان خبزه قريبا من الخبز الذي يخبز في قدور داخل التنور، إلا أن ذلك أفضل لان التنور أفتح وأفسح، والطابون أضيق وأعم وأحقن للبخار.
وأما النار التي في باطن الفرن، فإن خبزها قريب من الخبز الذي يلصق في التنور، إلا أنه دونه في الفضل وجودة الغذاء أكثر، وذلك لعظم نار الفرن وقوة تأثيرها. ولذلك صار فعلها في ظاهر الخبز أكثر من فعل نار التنور كثيرا. والدليل على ذلك ما نشاهده من حمرة قشر خبز الفرن ورقته واكتنازه وليانة لبه ورطوبته، وما يظهر من سخافة قشر خبز التنور وثخنه وليانته وجفاف لبه وقلة رطوبته. فقد دلت الشواهد على أن خبز التنور أفضل وأغذى وأحمد غذاء وأسرع انهضاما، لان رطوبة لباب خبز الفرن تدل على لزوجته وغلظه، واكتناز قشره يدل على صلابته وبعد انحلاله.
وأما الخبز المعمول على الطابق، فإنه أردأ من خبز الفرن كثيرا، من قبل أن حرارة النار إنما تباشر سطحه الذي على الطابق فقط. فالحرارة إذا إنما تصل إليه من جهة واحدة والهواء يحيط به من الجهة الأخرى. فالنار إنما تفعل فيه من الجهة التي تباشره منها، والجهة الأخرى فإن النار لا تصل إليها وصولا يتهيأ معه تلطيف غلظها ولزوجتها، ولا تخليل رياحها ونفخها، ولا تستكمل إنضاجها أصلا.
ولذلك صار هذا الضرب من الخبز مذموما جدا كثير اللزوجة والغلظ، قليل الغذاء بطئ الانهضام مولدا (1) للرطوبات النية والرياح الغليظة. ولهذا صار كثيرا ما يحدث على طول الأيام انزمام (2) في الجنبين ونفخ في البطن وثقل في سائر الأعضاء وبخاصة في أبدان المترفين وكثيري (3) الدعة والسكون.
وأردأ من ذلك الخبز الذي يخبز على الجمر والرماد المعروف بالملة، لان الضرر فيه بين جدا من جهتين: إحداهما: أن النار تباشر ظاهره من كل جهة مباشرة قوية من أقرب قرب من غير حاجز ولا وسط. فهي لذلك تجفف رطوبة ظاهره بسرعة في أقرب وقت، وتكثفه وتصلبه قبل أن تفعل في باطنه إلا فعلا يسيرا نزرا (4) فتحتقن بخارات اللباب في باطنه وتبقى على غاية الغلظ واللزوجة وكثرة الرياح والنفخ. والثانية: ما يخالط الخبز من رماد الجمر وترابه لان الجمر لما كان مباشرا للخبز من غير حاجز