وأما اختلاف الحنطة من قبل طبيعة بلدتها، فيكون على أربعة ضروب: لان من البلدان ما هي في طبيعتها حارة يابسة جنوبية. ومنها ما هي في طبيعتها حارة رطبة شرقية. ومنها ما هي في طبيعتها باردة يابسة شمالية. ومنها ما هي في طبيعتها باردة رطبة غربية. فما كان من البلدان في طبيعته حارا يابسا جنوبيا، كانت رطوبة حنطته المغذية لها قليلة يسيرة وحرارتها الغريزية ناقصة ضعيفة، من قبل أن حرارة هواء البلد تنشف رطوبة الحنطة الجوهرية وتفني أكثرها وتخلخل جسمها وتفتح مسامه وتحلل بعضها حرارتها الغريزية منها، فتنتقص الحرارة الغريزية في باطنها، وتضعف عن هضم ما تحصل من غذائها، وتصير الحنطة لذلك قحلة جافة صلبة قليلة الغذاء عسيرة الانهضام. وما كان من البلدان في طبيعته حارا رطبا شرقيا، كان غذاء حنطته الذي يغتذى بها كثير الرطوبة، لرطوبة هواء بلدتها. وما كان من الحنطة كذلك، ضعفت حرارته الجوهرية عن هضم غذائه لكثرة الغذاء عليها، ونشفت حرارة الهواء بقوتها أكثر رطوبة الحنطة الجوهرية، وصارت لذلك سخيفة خفيفة قليلة الجوهر واللباب. وما كان من البلدان في طبيعته باردا رطبا، كان كثير الطل (١) والندى، وكانت كثرة طله ونداه زائدة (٢) في الرطوبة المغذية للحنطة مع برد الهواء، استرخت الحنطة ولانت ووصل برد الهواء إلى عمقها، وأخمد حرارتها الغريزية، وأضعفها عن هضم ما حصل منها من الغذاء وعجزت حرارة الهواء عن كشف شئ من رطوبتها لقوة بردها. وصار ذلك سببا وكيدا (٣) لسخافة الحنطة ورخاوتها وكثرة قشورها ونخالتها وقلة جوهرها ولبابها.
وما كان من البلدان في طبيعته باردا يابسا جافا، كان كثير الثلج والجليد، غليظ الهواء. وإذا غلظ الهواء عسر نفوذه في رطوبته وفى جسم الحنطة لغلظها، وقل ما يصل إليها من الغذاء <و> استحصف ظاهر جسمها بقوة برد الهواء ويبسه وانحصرت الحرارة الغريزية في باطن الحنطة، وقويت على طبخ غذائها على ما ينبغي وخفته عليها. وصار ذلك سببا قويا لاكتناز الحنطة ورزانتها وكثرة جوهرها ولبابها وقلة قشورها ونخالتها وحسن غذائها وجودة انهضامها.
وأما اختلاف الحنطة من قبل طبيعة الزمان الحاضر في مدة نباتها، فيكون على ضروب: لان من الأزمنة ما يكون معتدلا شبيها بمزاج الربيع الطبيعي في اعتدال حرارته ورطوبته. ومنها ما يكون في ابتداء أمره معتدلا ثم يتغير وينتقل إلى فساد. فإن كان الزمان معتدلا، كانت الحنطة فيه على غاية الكمال والسمن وكثرة الجوهر واللباب، وإن كان الزمان حائدا عن الاعتدال، لم تستكمل الحنطة ولم تتم، وصار غذاؤها مذموما، ويستدل على ما يخلفها من الفساد وما يلحقها من اختلاف هواء بلدتها.
وربما كانت الحنطة قد استكملت وتمت لاعتدال زمانها في الابتداء، ثم رشت السماء بعد أن يكون الزمان قد سخن، فلانت الحنطة لذلك، وتمكن حر الهواء منها وغاص في باطنها وجففت رطوبتها الجوهرية فتحشفت وضمرت بما نالها من السموم. ولذلك يعرض لها إذا هبت عليها ريح عاصف حارة يابسة في وقت