وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الخبز أثخن وأعظم قدرا، كان لبابه أكثر وغذاؤه أزيد وانحداره عن المعدة أبعد، ومعونته على تليين البطن أقرب. وما كان من الخبز أرق وأصغر، كان لبابه أقل وغذاؤه أيسر وانحداره عن المعدة أسرع ومعونته على حبس البطن أسهل.
وما كان من الخبز متوسطا بين هاتين الخلتين، كان أخذ من الحاشيتين بقسطه، وصار على غاية التوسط والاعتدال، وإن كان ذلك قد يزيد فيه وينقص على حسب قربه من إحدى (١) الحاشيتين دون الأخرى، أو توسطه بينهما على الحقيقة.
وأما صنعة الخبز، فتكون على أربعة ضروب: لان منه ما تحكم صنعته وعمله ويجعل فيه من الخمير والملح مقدار الواجب، ويبالغ في عجنه وعركه وتخميره، ويخبز بنار لينة معتدلة، ويفعل فيها بتمهل حتى ينضج تاما كاملا. ومنه ما لا يجعل فيه من الخمير والملح إلا أيسر <من> ذلك، ويقصر في عجنه وعركه وتخميره، ولا ينضج أيضا نضجا كاملا. ومنه ما قد جعل فيه من الخمير والملح ما يجاوز المقدار في الكثرة. ومنه الفطير المحض الذي لا يجعل فيه من الخمير والملح شئ (٢) أصلا.
فما كان منه معتدل (٣) الخمير والملح، وقد أحكم صنعته في عجنه وعركه وتخميره وحسن إنضاجه بنار معتدلة قد بعدت حرارتها في كل أجزائه بالسواء، كان انهضامه في المعدة على غاية ما يكون من الجودة. وما كان ما يتولد منه في البدن من أوفق الأشياء للأفعال التي بها يتم الاغتذاء. وما كان كذلك كان محمودا جدا موافقا لأصحاب الدعة والسكون من المتملكين، ولمن قد ضعف استمراؤه من المشايخ والناقهين من الأمراض، من قبل أن الصنعة خارجا قد كفت الطبيعة مؤونة التعب فيه باطنا. وأما أهل الرياضة والتعب، فهو قليل الموافقة لهم (٤)، للطافته وسرعة انحلاله من أعضائهم. ولذلك صار متى أدمن عليه أحد منهم، انحلت قواه وضعفت أعضاؤه ونقص لحمه من قرب، من <قبل> أن التعب وإدمان الحركة يحمي الأعضاء ويذيب ما فيها من الرطوبة المغذية لها، ويحللها بالبخار والعرق. فإذا كان الغذاء لطيفا انحل بسرعة وخلت الأعضاء منه وضعفت ونقصت قواها ولحمها. وإذا كان الغذاء منيعا غليظا، قاوم الحرارة المتولدة عن الحركة ولم ينقاد (5) لها ولم ينحل بسرعة. ولذلك احتاج أهل هذا الشأن إلى ما كان من الغذاء أغلظ وأصلب وأبعد انحلالا من الأعضاء، وإلا قطعته الحرارة وأذابته وأفنته قبل أن تستتم الأعضاء حاجتها منه.
وما كان من الخبز قليل الخمير والملح، ولم يبالغ في عجنه وتخميره وإنضاجه غاية الاحكام، وكان فيه من اللزوجة والغلظ ما يقارب لزوجة الحنطة المسلوقة وغلظها، وإن كان دونها في ذلك قليلا لما قد داخله من يسير الخمير والملح والتخمير. ولذلك صارت رياحه أقل ونفخه أيسر. إلا أنه لقربه من