ولبابه أكثر ونخالته وقشوره أقل. وما كان منه كذلك، كان لعمل دقيق السميذ أفضل منه لعمل دقيق الخشكار (4)، وكان غذاؤه أكثر، وانحداره عن المعدة أعسر، وانحلاله من الأعضاء أبعد. وذلك لبعد انقياده لفعل الطبيعة للزوجته وعلوكته. ولهذا السبب صار غذاؤه لتقوية الأعضاء وشدتها، أفضل منه لحفظ الصحة وثباتها، من قبل أن قوة الأعضاء تحتاج من الأغذية إلى ما كان لبثه فيها أطول، وانحلاله منها أعسر، وانقياده للانفعال عند حاجة الطبيعة إلى تحليله أبعد. وحفظ الصحة وثباتها يحتاج من الغذاء إلى ما كان لبثه في الأعضاء أقل، وانحلاله منها أسهل، وانقياده للانفعال عند حاجة الطبيعة إلى تحليله أسرع.
وما كان من الحنطة سخيفا متخلخلا خفيف الوزن، سريع المكسر، أبيض الداخل، كانت نخالته وقشوره أكثر، ولبابه ودقيقه أقل. وما كان كذلك، كان لعمل دقيق الخشكار أفضل منه لعمل دقيق السميذ، وكان غذاؤه للأبدان أقل، وانحداره عن المعدة أسرع، وانحلاله من الأعضاء أسهل. وذلك لسرعة انقياده لفعل الطبيعة لسخافته ورخاوته، ومن قبل ذلك صار فعله في حفظ الصحة وبقائها أكثر منه في تقوية الأعضاء وشدتها، للأسباب التي قدمنا ذكرها من سرعة انقياده، لرخاوته وكثرة نخالته وقلة لزوجته وعلوكته.
وأما اختلاف الحنطة بسبب تربتها وأرضها التي تنبت فيها، فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن من الأراضي ما هي عذبة علكة كثيرة الدسم والغذاء. ومنها ما هي قحلة جافة قليلة الدسم والغذاء، إما من طبيعتها وجوهريتها، وإما لعارض عرض لها من دغل (1) كان فيها وأحرق بالنار، فجففت النار رطوبتها، وأفنت أكثر دسمها وعذوبتها، وأكسبتها قحلا وجفافا. ومنها ما قد كانت من طبيعتها قحلة جافة، وأحرق دغل كان فيها بالنار، فازدادت بفعل النار فيها قحلا وجفافا، واكتسبت بورقية وصارت في حد السباخ، وخرجت من حد ما ينتفع به أصلا. فما كان من الحنطة نباته في أرض دسمة عذبة كثيرة الغذاء، كان أسمن وأدسم وأشد اكتنازا وتلززا، وأثقل وزنا لأنها تغتذي بغذاء كثير الدسم والعذوبة. وما كان من الحنطة كذلك، كان لبابه وجوهره أكثر، وقشره ونخالته أقل. وما كان من الحنطة نباته في أرض قحلة جافة قليلة الدسم والعذوبة، وكان ذلك لها من جوهريتها أو لعارض عرض لها من دغل كان فيها، فاحترق بالنار وكانت أقل سمنا وأسخف جسما وأخف وزنا إذا كانت لا تكتسب من الغذاء إلا اليسير لقحل أرضها وقلة دسمها. وأما الأرض التي هي في طبيعتها جافة قحلة ثم أحرقت بالنار لدغل كان فيها وازدادت بفعل النار فيها، قحلا وجفافا، فإنها لا تكاد أن تنبت شيئا. فإذا أنبتت كان ما ينبت فيها رقيقا يابسا كمونيا (1) يعرف بالزوان لا لباب له ولا غذاء أصلا. لكنه خارج عن طبيعة الغذاء داخل في طبيعة الأدوية السمية. ولذلك صار بالأبدان مضرا جدا.