للأبدان وأسرع انحدارا من المعدة والمعاء، من قبل أن القوة النارية <التي> كان بها يسخن ويجفف، قد خلقت (1) وضعفت لبعد عهده بحركة الحجر. وما كان منه متوسطا بين هاتين المرتبتين، كان أخذ (2) من الحاشيتين بقسطه، إلا أنه كلما قصرت مدته وقربت من وقت الطحن، كان أكثر لاسخانه وتجفيفه، وأبعد لانحداره. وكلما طالت مدته وبعدت من وقت الطحن، كان أقل لاسخانه وتجفيفه وأسرع لانحداره.
وأما اختلاف الخبز من قبل صنعته، فيكون على ضربين: أحدهما: من مقدار الخبز وشكله وإحكام صنعته وإتقان (3) عمله. فأما مقدار الخبز فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه ما يكون عظيما ثخينا، ومنه ما يكون لطيفا رقيقا، ومنه ما يكون متوسطا بين هذين الحدين.
فما كان منه عظيما ثخينا، كان لبابه أكثر وأرطب، وقشره أرق وأصلب، من قبل أنه يحتاج إلى أن يلبث في النار مدة أطول قبل تمام نضجه لثخنه وعظم مقداره. ولذلك تتمكن النار من ظاهره وقشره لمباشرتها له وتجفف رطوبته ويصير لبه قريبا من طبيعة القمح المقلو قبل أن يستبين فعلها في باطنه ولبابه. وما كان من الخبز كذلك كان قشره قليل الغذاء عسير الانحدار والانهضام، مجففا لرطوبة الثفل حابسا للبطن، من قبل أنه يحتاج إلى رطوبة تبله وتلينه، فيفتقر إلى رطوبة المعدة ورطوبة الغذاء جميعا، وينشفها ويجففها فيجف لذلك الثفل ويمتنع من الانحدار بسرعة، ويصير ذلك سببا وكيدا لحبس الطبيعة. ولهذه الأسباب قلت رياحه ونفحه وصار إذا انهضم وصل إلى الأعضاء وطال لبثه وبعد انحلاله منها، وكان زائدا في قوتها وشدتها. وأما لباب هذا الضرب من الخبز، فهو في الجملة غليظ كثير الرطوبة، إلا أنه يكون على ضربين: وذلك أن منه ما لم تتمكن النار منه، ولم تفعل في جملة أجزائه فعلا متساويا، لكنها أنضجت بعضها وبقي بعضها نيا في غاية الغلظ والفجاجة. فصار لذلك غذاؤه مذموما مولدا للبلغم اللزج. ومنه ما تمكنت النار منه وعملت في جملة أجزائه وأنضجتها، غير أنها لم تتمكن منها تمكنا يتهيأ معه تلطيف لزوجته وغلظه، فصار بالإضافة إلى ما لم تفعل في أجزائه فعلا متساويا، أكثر غذاء وأسرع انهضاما وأعون على تليين البطن وبخاصة متى كان الدقيق الذي عمل منه الخبز نخاليا، وأكل الخبز وهو حار عند خروجه من التنور.
وما كان من الخبز رقيقا صغيرا، فغير محتاج إلى أن يلبث في النار إلى أن يجف قشره قبل تمام نضجه، لان النار تصل إلى جميع أجزائه وتفعل فيها من قرب وتنشف رطوبة اللباب ولزوجته. ولذلك صار اللباب من هذا الضرب من الخبز أقل وأجف، وقشره أثخن وألين، لان النار قد تمكنت من باطنه وفعلت فيه كفعلها في ظاهره من تجفيف رطوبته وتلطيف لزوجته. ولذلك قلت فضوله، وصار غذاؤه أقل وانحداره أبعد، ومعونته على حبس البطن أزيد، ولا سيما إذا كان باردا قد مضى له يوم أو يومان أو أكثر من ذلك.