ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن جميع السمك النهري والأجامي (1)، وإن كان لحمه رخصا سمينا، فإنه يفسد بسرعة ويضر بالمعدة ويولد خلطا نيا. ولروفس فيه قول قال فيه أيضا: إن الجنس الواحد من السمك إذا كان منه بحريا ومنه نهريا، فالبحري منه أقل سهوكة وزفورة وأسرع انهضاما وأفضل غذاء وأقرب من الانقلاب إلى الدم وأسهل انحلالا من الأعضاء، إلا أنه أبطأ انحدارا عن المعدة والمعاء. وقد يقع في كل واحد من نوعي السمك اختلاف كثير لوجوه شتى. وذلك أن البحري ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه ما يأوي لجج البحر ووسطه. ومنه ما يطلب شط البحر وأطرافه. وما يأوي منه وسط البحر ولججه يكون على ضربين: لان منه ما يأوي المواضع الصلبة الصخرية الكثيرة الحجارة ويسمى السمك البحري (2) ومنه ما يطلب المواضع اللينة الرخوة الكثيرة الطين والرمل ويسمى السمك اللجي. والذي يأوي شط البحر وأطرافه يسمى الشطي وهو على ثلاثة ضروب:
لان منه ما يطلب المواضع الصافية الماء، النقية من الكدر والوسخ البعيدة من مصب الأنهار. ومنه ما يطلب المواضع القريبة من مصب الأنهار الكثيرة الكدر والوسخ، لان الأنهار تصب إليها وسخ مزابل المدن وماء الحمامات ومبال الكنان، ما يقذر ماءها ويفسده. ومنه ما يطلب المواضع المتوسطة بين هذين الحدين فيأخذ من الحاشيتين بقسطه.
وكذلك السمك الذي يأوي الماء العذب ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه ما يأوي الأنهار ويسمى النهري. ومنه ما يأوي البرك والبحيرات ويسمى البحيري. والذي يأوي منه الأنهار يكون على ضربين: لان منه ما يأوي الأنهار القوية المد، السريعة الجري، الكثيرة الأمواج البعيدة من المدن، الصافية الماء، النقية من الأوساخ والكدر. ومنه ما يأوي أنهارا لطافا ضعيفة المد، بطيئة الجري، قليلة الأمواج، قريبة من المدن، كثيرة الأوساخ والكدر، لكثرة ما ينصب إليها من وسخ المزابل ومياه الحمامات ومبال الكنان. والذي يأوي البحيرات يكون على ضربين: لان منه ما يأوي بحيرات تنصب إليها الأنهار دائما، وينصب ماؤها إلى البحر، فينغسل ماؤها في كل وقت بما ينصب إليها من الأنهار، ويخرج منها إلى البحر. ومنه ما يأوي الآجام والبحيرات المنقطعة عن البحور الكثيرة الطين والحمأة.
وإذ أتينا على ما أردنا شرحه من انقسام أجناس السمك إلى أنواعها، فقد بقي بأن نأتي بخاص كل واحد منها على الانفراد، وتوضيح فعله وانفعاله. فنقول: إنا قد كنا بينا أن السمك البحري في الجملة أفضل غذاء وأحمد، في جودة الاستمراء، من السمك النهري. من قبل أن ملوحة مائه (3) تقطع رطوباته وتلطف فضوله وغلظه، وتذهب بلزوجته وبخاصة متى كان صخريا، وكان مع ذلك قريبا من القرار، لأنه بدوام ممره بالصخر ومصادمته له دائما، يسترخي لحمه ويلين ويقل شحمه ولزوجته وسهوكته. ولذلك صار في هذين المعنيين، أعني رخاوة اللحم وقلة اللزوجة والشحم، أسبق من سائر